دخلت إسرائيل مرحلة جديدة بعد طيّ صفحة بنيامين نتنياهو، بشكل مؤقّت حتى الآن، واستبداله بتحالف يضمّ كلّ الطيف السياسي، من أقصى اليمين إلى اليسار و(جزء) من الكتل العربية، إثر نيل حكومة الثنائي «بينت – لابيد»، ثقة «الكنيست» بأغلبية 60 صوتاً مقابل معارضة 59. مع ذلك، فإن الجديد في إسرائيل سيكون في العناوين والأسماء أكثر من كونه في الخيارات والمواقف، فيما ستبقى هذه الحكومة حتى آخر يوم في عهدها، تسير على حافة التفكّك عند كلّ محطة، وتستعين بشبح عودة نتنياهو لتعزيز التلاحم بين أطرافها، إلى أن يستجدّ معطًى داخلي أو إقليمي يفجّرها أو يدفعها إلى تجاوز تبايناتها
من بين كلّ السيناريوات التي كانت مطروحة حول مآلات الوضع الحكومي والسياسي في كيان العدو بعد انتخابات آذار الماضي، تَحقّق السيناريو الذي كان الأكثر استبعاداً بمعايير مُحدَّدة، إذ اجتمع أقصى اليمين مع أقصى اليسار في حكومة واحدة، بل وانضمّت إليهما كتلة «القائمة العربية الموحّدة»، للمرّة الأولى في تاريخ إسرائيل. هذا الكمّ من التناقضات لم يجتمع على قضية قومية أو أمنية، بل فقط من أجل إطاحة شخص نتنياهو من رئاسة الحكومة. وهكذا حدث ما كان يراهن نتنياهو على أن خصومه في معسكر اليمين لن يجرؤوا عليه، بالتحالف مع اليسار والعرب. وقد كشف فشله في إحباط هذا المسار، عن أنه بالرغم من أن مصلحته تقتضي إشعال الوضع الإقليمي، ولو على إحدى الجبهات، حجم معادلات القوة التي تضبط الساحة الإقليمية، وحضورها القوي لدى المؤسّسات في كيان العدو، وأن هذه المؤسّسات لها الكلمة الفصل عندما ترتفع نسبة المخاطر على الأمن القومي الإسرائيلي. في كلّ الأحوال، سقط نتنياهو وأَسقط معه كلّ حلفائه الذين صمدوا معه حتى آخر لحظة في جلسة عاصفة شهدها «الكنيست». لكن طريق عودته التي وعد بأنها ستكون «أسرع ممّا تتخيّلون»، مرهونة بثلاثة أمور: الأول مصيره كرئيس لحزب «الليكود»، والثاني سنّ قانون يمنع أيّ عضو «كنيست» متّهم بالفساد والرشوة من الترشّح لرئاسة الحكومة، والثالث مدى صمود الحكومة ونجاحها في إدارة الخلافات بينها.
بالتوازي، يبدو واضحاً، من المواقف التي أطلقها رئيس الحكومة الجديد، نفتالي بينت، خلال كلمته في «الكنيست»، أن إسقاط حكومة نتنياهو لا يعني تغييراً في السياسات الكبرى، خاصة في ما يتعلّق بالموقف من إيران والاتفاق النووي وسوريا ولبنان والموضوع الفلسطيني، إذ عبَّر عن معارضته لعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي، مُكّرراً القول إن اسرائيل لن تسمح لإيران بامتلاك أسلحة نووية، وستحافظ على حرّية عمل كاملة، في موقف مطابق في المضمون والمفردات للخطاب الذي يعتمده نتنياهو. في المقابل، اعتمد رئيس الوزراء السابق استراتيجية التشكيك في جدّية بينت ومصداقيته وقدرته على تنفيذ ما يعلنه من مواقف في هذا المجال، معتبراً أن الحكومة الجديدة لن تصادق على عمليات داخل إيران في حال عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق، الذي تعامل معه على أنه حقيقة منجزة. وفي محاولة لإظهار ضعف الحكام الجدد، رأى نتنياهو أن «طهران تحتفل بهم، لأنها تدرك أنه من الآن فصاعداً سوف تكون في إسرائيل حكومة ضعيفة، ومتراخية، ومتماشية مع إملاءات المجتمع الدولي». وشكّك في قدرة بينت على الصمود في مقابل ضغوط واشنطن، مشدداً على أنه ينبغي أن يكون بمقدور رئيس الحكومة أن يقول «لا» لرئيس الولايات المتحدة. أمّا بخصوص مضمون المواقف التي أطلقها بينت إزاء إيران، والتي لا يستطيع نتنياهو انتقادها، فقد أعرب الأخير عن قلقه من أن صاحبها «يفعل دائماً عكس ما يعِد به». وفي حركة استعراضية ترمي إلى الإيحاء بأن إزاحته عن منصبه ستُغيّر من المعادلات لمصلحة أعداء اسرائيل، توجّه إلى إيران و»حزب الله» بالقول «نحن عائدون قريباً»، وكأن إسرائيل في ظلّ قيادته تختلف في خياراتها وقدراتها عن حقيقتها في ظلّ قيادة غيره.
يبدو واضحاً من المواقف التي أطلقها بينت أن إسقاط حكومة نتنياهو لا يعني تغييراً في السياسات الكبرى


وفي ما يتعلّق بالموقف من قطاع غزة، تمنّى بينت استمرار وقف إطلاق النار. أمّا في حال خرقه، فقد حرص على منافسة نتنياهو في إطلاق التهديدات، متوعّداً بردّ كبير على ذلك. وكرّر الالتزام الإسرائيلي التقليدي بإعادة الجنود الأسرى في غزة، واصفاً استعادتهم بأنها «واجب مقدس، ينبغي تنفيذه بمسؤولية». ومع أن نتنياهو لا يستطيع أن يزايد على بينت في موقفه من الدولة الفلسطينية، وخاصة أن الأخير يدعو إلى ضمّ «مناطق ج» التي تشكّل نحو 60% من الضفة الغربية، إلى إسرائيل، إلّا أنه تناول هذه القضية، مشيراً إلى أنه «فضلاً عن إيران، التحدّي الثاني أمامنا هو منع قيام دولة فلسطينية تهدّد وجودنا»، وهو بذلك يصوّب على وجود أصوات داخل الحكومة الجديدة تتمايز في بعض الخطوط عن اليمين الإسرائيلي.
إلى ذلك، يبقى السؤال الأكثر حضوراً هو ما يتعلّق بمستقبل حكومة بينت – لابيد، ومصير نتنياهو السياسي. في هذا الإطار، حرص رئيس الوزراء السابق على التأكيد أنه «إذا أجبرنا على أن نكون في المعارضة، فسنفعل ذلك، حتى إطاحة الحكومة الخطِرة»، في إشارة إلى عزمه على البقاء في رئاسة حزب «الليكود» وترؤس المعارضة، والى أن أولويته تتمثّل في العمل على إسقاط الحكومة في أسرع وقت ممكن. ويراهن نتنياهو على أن تؤدي الانتخابات إلى معاقبة الجمهور اليميني لحزبَي «يمينا» و»أمل جديد» على مشاركتهما مع العرب واليسار في حكومة واحدة على حساب حكومة يمينية، وبالتالي إلى تعزيز مكانته وحلفائه التقليديين، بما يسمح له بنيل أغلبية 61 عضو «كنيست»، يحتاج إليها لتأليف حكومة يمينية برئاسته. ولتحقيق السيناريو المذكور، يعوّل نتنياهو على أن تسهم التناقضات القائمة بين أطراف الحكومة الجديدة إلى تفجيرها في أوّل اختبار جدّي يحاكي التباينات بين أقطابها، وهو أمر يحضر لدى مؤيّديها وخصومها على السواء.
وأجمل رئيس تحرير صحيفة «هآرتس»، ألوف بن، النتائج التي ترتّبت على سقوط نتنياهو وصعود بينت بدلاً منه، بالقول إن «إسرائيل تدخل إلى عهد سياسي جديد»، مشيراً الى أن هذه الحكومة تواجه مروحة من التباينات، عادّاً منها: «الائتلاف المتوتّر بين اليمين واليسار، والذي تختلف الأحزاب التي تُشكّله حول أيّ مسألة قومية جوهرية؛ انضمام حزب عربي كشريك في الحكم؛ كون رئيس الحكومة (بينت) يستند إلى كتلة من ستة أعضاء كانوا يفضّلون الاحتفال بتنصيب حكومة يمينية؛ نظام التبادل في المناصب والتناوب والتأثير المتساوي على قراراتها، والذي يُعقِّد بشكل أكبر التسويات الشائكة التي أقرّتها الحكومة المنتهية ولايتها؛ التهديدات الواضحة والداهمة في القدس وغزة والبؤرة الاستيطانية العشوائية أفيتار، والتي من شأنها زعزعة الحكومة منذ أيامها الأولى». بالاستناد إلى هذه الألغام، يضيف بن أنه «يصعب تقدير كيف ستعمل الحكومة الجديدة، وكم من الوقت ستصمد، وكيف ستردّ على التحدّيات الأمنية والاجتماعية التي ستَمثُل أمامها». والنتيجة الواضحة التي ستترتّب على ذلك هي أن أيّاً «من الوعود الانتخابية للأحزاب التي تُشكّل الحكومة الجديدة لم يَعُد واقعياً، في ظلّ عدم وجود أغلبية واضحة لأحد الأطراف، بسبب نظام الفيتو المتبادل على قرارات مختلف حولها، ولأن انسحاب أيّ كتلة من شأنه أن يؤدّي إلى انهيار هذا الجسر المتهلهل».




اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا