لندن | على رغم عدم الإعلان رسمياً عن نتائج الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية في بيرو، بعد مرور أربعة أيام على إغلاق صناديق الاقتراع مساء الأحد الماضي، بدا فوز بيدرو كاستيلو، النقابي اليساري والمدرّس، بدورة رئاسية تمتدّ حتى عام 2025، محسوماً، وإن بنسبة ضئيلة للغاية بلغت 50.206%، فيما حصلت منافِسته كيكو فوجيموري، مرشّحة اليمين التي توحّدت وراءها مختلف القوى البرجوازية في البلاد، على 49.798% من الأصوات، بعد فرز 99.795% من أوراق الاقتراع. وفي ظلّ هذا التقارب الشديد في النتائج، سارع فريق فوجيموري إلى رفع الشكاوى، متحدّثاً عن احتيال مزعوم. وعلى هذه الخلفية، تقدَّم الفريق بعشرات الطعون إلى الهيئة الناظمة للانتخابات، فيما دعا بعض مؤيّدي مرشّحة اليمين، الجيش، إلى الانقلاب على العملية الدستورية لمنْع كاستيلو من تولي السلطة. لكنّ مؤيّدي هذا الأخير بدوا مصرّين على الدفاع عن حقّه في تولّي منصب الرئاسة، إذ قضى الآلاف منهم أربع ليال خارج المقرّ الانتخابي لحزب «بيرو ليبر» (بيرو الحرّة) يترقّبون إعلان النتيجة. في موازاة ذلك، تحرّكت قافلة ضخمة من الـ«رونديروس» ـــــــ وهم ناشطو دفاع ذاتي في المناطق الريفية ـــــــ في اتجاه العاصمة ليما، كرسالة إلى الجيش والنخبة الحاكمة بعزم الشعب على نقل المواجهة إلى الشارع متى تطلّب الأمر. وعكست المشاركة الكثيفة للناخبين في هذه الانتخابات (17 مليوناً و400 ألف ناخب) طبيعة الأزمة الحادّة التي تواجهها البلاد، إن لناحية الانكماش الاقتصادي الذي ضاعفت الأزمة الوبائية ارتداداته في ظلّ سوء إدارة الحكومة لجهود مكافحة «كورونا» أو بسبب تفاقم التفاوت الهائل في الأجور والمكتسبات بين أقلّية ثرية تهيمن ــــــــ بالشراكة مع الكيانات الغربية المتعددة الجنسية ـــــــــ على موارد البلاد الطبيعية، وأكثرية فقيرة مهمّشة طبقياً وعرقياً نتيجة عقود طويلة من السياسات النيوليبرالية وإرث خصخصة الموارد والفساد المستشري في بلد يقبع خمسة من رؤسائه السابقين في السجن أو يخضعون للمحاكمة بتهم تتعلّق بسوء استخدام السلطة. وقد شهدت البلاد احتجاجات واسعة في تشرين الثاني الماضي، كادت تتحوّل إلى انفجار شعبيّ قبل أن تهدأ نتيجة وعود بإجراء انتخابات رئاسية شفافة.
طرح كاستيلو ابتداءً برنامجاً انتخابياً تضمّن تعهُّداً بتأميم شركات التعدين الكبرى


أمّا كاستيلو الذي تَقدّم في الجولة الأولى من الانتخابات على عدّة مرشحين أقوياء بمجموع 19% من الأصوات، فكان طرح برنامجاً انتخابياً تحت شعار «لا فقراء في بلد غني»، تضمّن تعهداً بتأميم شركات التعدين الكبرى إن هي رفضت مبدأ إعادة التفاوض على العقود المجحفة في حقّ بيرو، وعَقْد مؤتمر تأسيسي لوضع دستور جديد للبلاد بديل من دستور عام 1993 الذي فرضه الرئيس ألبرتو فوجيموري ـــــــــ الديكتاتور السابق ووالد المرشّحة كيكو فوجيموري ــــــــــ. وألهم هذا البرنامج كثيرين من أبناء الطبقة العاملة والفلاحين للعودة إلى لعبة السياسة والاقتراع مجدداً، بعدما فقدت العملية الديمقراطية في الدولة البيروفية ثقة الجمهور بها منذ زمن بعيد. في المقابل، لم تكن فوجيموري، ممثّلة اليمين المتطرّف، المرشّحة المفضلة للقطاع الأعرض من الطبقة البرجوازية. ومع ذلك، توحّدت كلّ القوى الرجعية خلْفها بعدما جاءت ثانية في الجولة الأولى من الانتخابات، واستثمرت أموالاً طائلة في حملات شيطنة كاستيلو وتحذير المواطنين من الفقر الذي ستجلبه أفكاره الشيوعية. وتوافقت الصحف على وصفه بسليل سينديرو لومينوسو (زعيم حركة «الطريق المضيء» التي أطلقت كفاحاً مسلحاً ضدّ السلطة خلال عقد التسعينيات).
وفي ظلّ هذا الاستقطاب الطبقي الشديد، بدأ كاستيلو حملته الانتخابية للدورة الثانية متقدِّماً في استطلاعات الرأي بفارق 20 نقطة مئوية على منافِسته. ومع اقتراب موعد الاقتراع، تقلّص الفارق تدريجياً تحت تأثير حملة الشيطنة ضدّ المرشّح اليساري، والتي دفعت بالمتردّدين إلى حسم خيارهم تجاه اليمين. لكن ما أسهم أيضاً في ذلك التراجع، وبشكل أساسي، تعمُّد كاستيلو وفريقه التخفيف من حدّة يسارية وعود البرنامج الانتخابي، والاقتراب تدريجياً من الوسط، فتناسى على سبيل المثال، فكرة التأميم، واكتفى بالتركيز على مساحة إعادة التفاوض حول العقود. وبدل تعهُّده بعقد مؤتمر تأسيسي لصوغ دستور جديد، أعلن أنه سيحترم دستور 1993 ويطلب من البرلمان ــــــــــ حيث لا يمتلك حزبه أغلبية كافية: 37 صوتاً من أصل 130 ــــــــــ الدعوة إلى إجراء استفتاء حول المسألة. كما أصدر حزبه بياناً طمأن فيه الطبقة البرجوازية ومصالح الأعمال إلى أن سياسات كاستيلو تحترم استقلالية «الاحتياطي المركزي»، وأكد أن خططه الاقتصادية لا تشمل عمليات التأميم أو مصادرة الأملاك أو المدّخرات أو فرض ضوابط على أسعار الصرف أو الأسعار أو حظر الاستيراد. ومع كلّ تراجع في المواقف، كان تقدُّم كاستيلو على منافِسته يتلاشى إلى درجة أن فوزه يوم الانتخابات تحقَّق بخُمس نقطة مئوية واحدة.
وتُظهر خريطة توزّع الأصوات بين كاستيلو ومنافِسته تقدُّم المرشّح اليساري بـ90% في معظم الولايات الفقيرة والريفية، ولا سيما في الجنوب وجبال الأنديز، وفي الولايات التي تستضيف مراكز صناعة التعدين، فيما تقدَّمت فوجيموري في العاصمة ليما (65%)، وفي المناطق ذات الطابع البرجوازي. ويفسّر هذا، إلى حدّ ما، صعوبة أن يتّخذ أيٌّ من الطرفين مواقف إقصائية تجاه الطرف الآخر. ويبدو أن التيار العاقل في النخبة البرجوازية الحاكمة الوثيقة الصلة بواشنطن، سيصل إلى شكل من أشكال التعايش مع كاستيلو، كما يُستشفّ من افتتاحية جريدة «لا ريباليكو»، والتي دعت، تعليقاً على الدعوات إلى انقلاب عسكري، إلى «الهدوء والتعامل برويّة وواقعية، والعمل بشكل جادّ على تهدئة مخاوف الشارع في المناطق الداخلية والفقيرة من البلاد، والتي تغرق بشكل متزايد في مزاج انعدام الثقة والسأم من العملية السياسية برمّتها».