تعوّل أنقرة على نتائج القمّة المرتقبة بين الرئيسين التركي رجب طيب إردوغان، والأميركي جو بايدن - والتي تسبق قمة تُعقد بين هذا الأخير ونظيره الروسي فلاديمير بوتين -، لكسر الجمود الحاصل في العلاقة بين الطرفين. وإزاء الرسائل الإيجابية التي سعت تركيا إلى إيصالها منذ أن تبوَّأ بايدن الرئاسة، رفعت الإدارة الوليدة من منسوب التوتُّر مع نظيرتها "الأطلسية" باعترافها بالإبادة الأرمينية، في موازاة إبدائها رغبةً في عقد لقاء بين زعيمَي البلدين "يفتح الباب أمام علاقات جيدة". لكنّ الخلافات الكثيرة، والتي جلَّت جانباً منها زيارة ويندي شيرمان إلى أنقرة، لا تزال تضغط على العلاقات الثنائية، خصوصاً في ظلّ سعي الولايات المتحدة إلى حصر الخلاف بقضية صواريخ "إس-400"، ودعوتها تركيا إلى التخلِّي عن الصفقة كونها تتجاوز الخطوط الحمر في العلاقة بين الشرق والغرب
تدخُل السياسة الخارجية التركية، في شهر حزيران الجاري، محطّات مفصلية ستترك أثرها على المسار الذي ستسلكه البلاد لاحقاً. فبعد لقاء وزيرَي خارجية تركيا واليونان، مولود جاويش أوغلو ونيكوس ديندياس، في أثينا، يلتقي الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، نهاية هذا الشهر، زعماء التكتُّل الأوروبي في جلسة "تقييم" لمجمل العلاقة بين الطرفين، والتي تُبدي تركيا إيجابية تجاهها في إطار إعادة رسم سياستها الخارجية. لكنّ الموعد الأهمّ بالنسبة إلى أنقرة، يبقى اللقاء المرتقب بين الرئيس التركي ونظيره الأميركي، جو بايدن، في بروكسل منتصف الشهر الجاري.
إزاء هذه التطورات، يتنفّس حزب "العدالة والتنمية" الصعداء. ذلك أن إردوغان، ومنذ وصول بايدن إلى الرئاسة، يُوجّه رسائل إيجابية إلى البيت الأبيض، لكنّ الرئيس الأميركي، وكما هو معروف، لم يبادر إلى الاتصال بنظيره التركي سوى مرّة واحدة عشية الـ24 من نيسان الماضي، ذكرى الإبادة الأرمينية، ليُبلغه، أولاً، اعتزام الولايات المتحدة الاعتراف بحصول الإبادة؛ وليُطلعه، ثانياً، على رغبته في عقد لقاء ثنائي يجمع الزعيمَين في بروكسل لبحث كلّ الموضوعات. وما بين الرفض التركي لقرار الإدارة الأميركية الاعتراف بالإبادة، وعقد القمّة الثنائية، تميل الواقعية السياسية إلى احتضان الخيار الثاني، وتجاوز الأوّل. لذا، أعرب إردوغان عن أمله في أن "تفتح القمّة الباب أمام علاقات جيّدة".
مجرَّد عقد اللقاء، لا يعني شيئاً لأحد. وعلى رغم أن البعض في تركيا يرى أن إردوغان بحاجة في هذه المرحلة إلى صورة مع بايدن ليقول إن العلاقات على ما يرام، إلّا أن تجاوز الشكليات لم يعد هدفاً في ذاته، خصوصاً أن الخلافات بين الجانبين تضغط على العلاقات الثنائية التي تنتظر حلولاً تُرضي الطرفين. فالغالب على العلاقات، راهناً، هو الشكّ المطلق. وليس أدلّ على ذلك من أن أوّل مَن قام بزيارة رسمية رفيعة المستوى لأنقرة، كانت نائبة وزير الخارجية، ويندي شيرمان، التي عكست تصريحاتها خلافاً عميقاً بين البلدين، إذ قالت إن "مسألة إس-400 خلقت مشكلة داخل حلف شمال الأطلسي. قدَّمنا بدائل ويعرفون جيّداً ماذا يمكن أن يفعلوا. نأمل في أن نجد حلاً وسطاً. هذا ليس موضوعاً تقنياً صرفاً، وليس موضوعاً سياسياً صرفاً. تركيا تدرك ذلك، وتعرف الخطوات التي يجب أن تُقدِم عليها. وقد تحادثنا كيف يمكن إطلاق هذه الخطوات وهذا سيكون قرار تركيا". مثل هذا التصريح العالي السقف لا يثير ارتياح أنقرة، بل هو يأتي في إطار الضغط عليها عشية قمّة إردوغان - بايدن.
في استعراض عناوين الخلافات بين أنقرة وواشنطن، يمكن، إضافة إلى صفقة "إس-400" الروسية لتركيا، ذكر الوضع في سوريا، الموقف من "وحدات حماية الشعب" الكردية، شرق المتوسط، ليبيا، قضية "بنك خلق"، تسهيل أنقرة لتبادل الأموال مع طهران، مسألة فتح الله غولِن، والاعتراف الأميركي بالإبادة الأرمينية. أمّا تكرار الحديث عن الحرّيات والديمقراطية والعنف ضدّ المراة وحقوق الإنسان، فتعرف أميركا أن موقفها أضعف من أن تثيره عملياً في اللقاءات المغلقة. ويبيّن ما سبق أن مسألة صواريخ "إس-400" لا تزال تشكِّل نقطة الخلاف الرئيسة. إذ تعتقد واشنطن أن أنقرة، بهذه الصفقة، إنما تتجاوز الخطوط الحمر في العلاقة بين الغرب والشرق، وفي علاقة عضو في "الناتو"، مع دولة "معادية" هي روسيا.
لا تزال مسألة صواريخ «إس-400» تشكِّل نقطة الخلاف الرئيسة بين تركيا والولايات المتحدة


على أن شدّ الحبال بين الطرفين تواصَل بعد الزيارة التي قامت بها شيرمان. ففي الأوّل من حزيران، انتقد إردوغان، في لقاء تلفزيوني، عدم تسليم الولايات المتحدة تركيا طائرات "إف-35"، على رغم أن بلاده دفعت ثمن حصّتها في المشروع. وقال: "لسنا دولة قرية. نحن جمهورية تركيا. وإن أيّ محاولة لحشر دولة جمهورية تركيا بهذا الشكل، تجعلها تخسر أصدقاء مهمّين. نحن معاً في حلف شمال الأطلسي. ونحن إحدى دول الأطلسي الخمس الأوائل". في مقابل هذه اللهجة، خاطب إردوغان بايدن، في اللقاء التلفزيوني نفسه، قائلاً: "لا نريد لهذه العلاقات أن تنتهي". وفي الإطار نفسه، جاء تصريح الناطق باسم "العدالة والتنمية"، عمر تشيليك، الذي قال: "نحن نريد تقييم العلاقات بين البلدين بإيجابية. فإذا وافقت الولايات المتحدة، يصبح حلّ كلّ الأمور سهلاً". في موازة ذلك، كان رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان، نائب إسطنبول عن حزب "العدالة والتنمية" عاكف تشاغاتاي كيليتش، يوصد أبواب الحوار بقوله: "مسألة إس-400 بالنسبة إلينا انتهت... علاقاتنا مع روسيا ليست بديلاً عن علاقتنا مع الولايات المتحدة، والعكس أيضاً صحيح"، إذ إن تركيا "لن تقوم بالمفاضلة بين خيارين"، على حدّ تعبيره.
في هذا الوقت، كانت وكالة "بلومبرغ" الأميركية "تستنتج" من تصريحات لوزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أن أنقرة ستقوم بترحيل الخبراء الروس إلى بلادهم كحلٍّ لمسألة صواريخ "إس-400"، وأن هذه ستكون "رسالة إيجابية" إلى إدارة بايدن. لكنّ الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، كذّب هذه الأخبار، قائلاً إن "الخبراء الروس في تركيا يعودون إلى بلادهم بصورة منتظمة بعد أن يدرّبوا الأتراك على استخدام الصواريخ. وتتم العودة وفق ما هو مرسوم، ولا صحة قطعاً للكلام عن ترحيل للخبراء وما شابه". تقول صحيفة "جمهورييت" إنه لم يصدر، حتى الآن، أيّ نفي رسمي لما أوردته "بلومبرغ". وكان جاويش أوغلو قال تبعاً للوكالة: "الصواريخ أصبحت تحت إشرافنا مئة في المئة. لذلك، فإننا أرسلنا الكثير من الخبراء والتقنيين والمهندسين إلى روسيا للتدريب، ولن يبقى هنا أيّ خبير روسي". وترى الصحيفة أن الوكالة اختلط عليها الأمر بين ترحيل الخبراء الروس، وبين إرسال مهندسين وتقنيين أتراك إلى روسيا للتدريب. على رغم الرسائل المتناقضة التي تبعث بها تركيا إلى الولايات المتحدة، إلّا أن أنقرة تراهن أيضاً على مواقف من شأنها أن تسهم في تليين الموقف الأميركي، مِن مِثل موقف تركيا المساند لأوكرانيا، والمؤيّد لبيعها، إلى جانب بولندا، طائرات مسيّرة من دون طيّار، وهو ما تعتبره روسيا عملاً عدائياً ضدّها. يضاف إلى ما سبق، أن النقاشات حول مصير "اتفاق مونترو" تصبّ في خدمة السياسات الأميركية.
تتّسع ساحات التقاطع والتعاون بين تركيا وروسيا، مُتجاوزةً مستواها التكتيكي، من البحر الأسود إلى القوقاز، ومن شرق المتوسط إلى الشرق الأوسط. لذا، من الصعوبة أن يعتقد إردوغان بأن تقديمه تنازلات للولايات المتحدة سيبقيه في السلطة من دون تداعيات على موقع تركيا في تلك الساحات. فإردوغان، يقول فهيم طاشتكين في صحيفة "غازيته دوار"، ليس مفاوضاً جيّداً، لكنه مساوم صلب. ويضيف طاشتكين: "إردوغان الذي يحبّ عبارة رابح-رابح، قد يجد نفسه أمام عبارة تنازل-تنازل، أي أنا سأتنازل فتنازلوا أنتم. لكنّ لتنازل إردوغان حدوداً، فهناك مَن ينتظره على الكوع ليس من جانب المعارضة التركية، بل من شريكه دولت باهتشلي. وسيف ديموقليس ليس واحداً بل أكثر من سيف"، يتابع طاشتكين. وفي جميع الأحوال، فإن قمة "الأطلسي" في بروكسل ستبقى قاعدة وفرصة لتركيا والولايات المتحدة لإنقاذ علاقاتهما المتوتّرة، خصوصاً أنها تسبق بيوم قمة بايدن - فلاديمير بوتين. ونظراً إلى ارتفاع منسوب الخلافات، فإن أوساط إردوغان تعتقد بأن الخلافات لن تذهب أبعد من ذلك، وبالتالي تبقى الفرصة قائمة لبدء تصحيح العلاقات.



أنقرة تراضي باريس أيضاً


في سياق تكثيف تحرُّكاتها تجاه حلفائها الغربيين والإقليميين منذ بداية العام الجاري، تشتغل تركيا، منذ بعض الوقت، على «تطبيع» علاقاتها مع فرنسا بعد أشهر من التوتُّر الذي ساد العلاقات بين البلدين. وفي ضوء هذه التحرُّكات، يصل وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إلى باريس، في أوّل زيارة يقوم بها مسؤول تركي رفيع المستوى إلى فرنسا منذ أشهر. وأعلنت وزارة الخارجية التركية، في بيان، أن جاويش أوغلو سيلتقي، خلال زيارته الأحد والإثنين المقبلَين، نظيره الفرنسي جان إيف لودريان، لبحث «العلاقات الثنائية، وكذلك بين تركيا والاتحاد الأوروبي» والقضايا «الإقليمية والدولية». وتأتي هذه الزيارة في وقت تسعى فيه أنقرة إلى تحسين علاقاتها مع باريس بعد أشهر من التوتُّر بين البلدين حول عدد من القضايا، مِن مِثل ليبيا وسوريا وشرق المتوسط، ومهاجمة باريس لـ»النفوذ التركي على الإسلام» في فرنسا. وكان الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، شكّك، في تشرين الأول الماضي، في «الصحة العقلية» لنظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، متهماً إيّاه بـ»معاداة الإسلام» على خلفية خطابه ضدّ «الانفصالية الإسلامية» في فرنسا.
(الأخبار، أ ف ب)