منذ مطلع أيار الماضي، ورجلُ المافيا سادات بكر (Sedat Peker) يمثّل الشغل الشاغل لتركيا. يَرِدُ في الإحصاءات أن مئة مليون شخص شاهدوا فيديواته الثمانية التي نشرها حتى الآن، ويكشف فيها وقائعَ تورَّط فيها أعضاء ومسؤولون في حزب «العدالة والتنمية» ومناصرون له. وُلد سادات بكر في عام 1971 في مدينة صقاريا من عائلة تعود أصولها إلى مدينة ريزي على البحر الأسود، المعروفة بالعناد والأنف المعقوف. ومن هناك، ينحدر مثلاً رئيسان سابقان للوزراء، هما: مسعود يلماز، ورجب طيب إردوغان. أمضى بكر سنواته الأولى في ألمانيا، قبل أن يعود إلى بلده، حيث أسّس مع أحد أصدقائه شركة للسيارات. ومن بعد فضّ الشراكة، أسّس منظّمة خارجة عن القانون اتُّهمت بتدبير العديد من الأعمال الإجرامية، لتبدأ حياته مع «حرفة» المافيا. وفي عام 1997، اتُّهم باغتيال رجل هارب، هو عبد الله طوبتشو، لكن تمّت تبرئته، فيما حُكم على مساعديه بالسجن المؤبّد (!). وبعد جهود مضنية استمرّت سبعة أشهر، اقتادت السلطات التركية بكر من رومانيا إلى إسطنبول في آب/ أغسطس 1998، ليُحاكم في الشهر التالي هو ومساعدوه بتهم تصل إلى السجن سبع سنوات ونصف سنة. لكنه، مع ذلك، حصل على إخلاء سبيل في 24 أيار 1999. وفي عام 2005، اعتُقل بتهم التهريب والجريمة المنظّمة، وحُكم بالسجن 14 عاماً وعشرة أشهر. لكن طعناً في القرار القضائي حوَّل مدّة السجن إلى سنة وثلاثة أشهر. كما حُكم عليه، في آب 2013، بالسجن عشرة أشهر بتهمة الانتماء إلى منظّمة «إرغينيكون» الشهيرة التي حاولت، وفق اتهامات حزب «العدالة والتنمية»، إطاحة السلطة الحاكمة. وفي حكم بتاريخ 10 آذار 2014، استفاد بكر من تغييرات قانونية، وأُطلق سراحه.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
بعد خروجه من السجن، لفت اسمه وكالات الأخبار حين تبرّع بمبلغ كبير من المال لجمعية معوّقين في قوجاعلي. وفي 9 آذار 2015، منحت جمعية لإعادة تأهيل المعوّقين، في احتفال سنوي أقامته، سادات بكر، «جائزة رجل العام للأعمال الخيرية». وشارك، في 4 نيسان 2015، في أحد الاحتفالات، لكونه الرئيس الفخري لجمعية «رجال الأعمال المسلمين» - فرع إزمير، التابعة لـ»العدالة والتنمية». وكانت أخبار تبرّعاته تتردّد في الصحف من وقتٍ إلى آخر، ومنها المساعدات التي قِيل إنه أرسلها إلى التركمان في سوريا عبر أربع شاحنات نقل خارجي، ضمَّت مساعدات غذائية، وشاحنتين أُرسلتا إلى «كتائب جبل التركمان» تضمّنتا أجهزة كومبيوتر محمولة، وأجهزة اتصالات لاسلكية، وماكينات تصوير، وطائرات مسيّرة صغيرة، وعشر سيارات فخمة ذات دفع رباعي.

أسلحة إلى «النصرة»
من الوقائع الأكثر إثارة للانتباه في الفيديو الأخير (الثامن) لسادات بكر، إرسالهُ مساعدات لتركمان سوريا، ووصول هذه المساعدات برعاية شركة «سادات»، أي «الاستشارية الدولية للدفاع» التي كان يرأسها أحمد تانري فيردي، مستشار إردوغان. يقول بكر إنه يعرف أن أسلحة النقل الخارجي كانت موجّهة، وبمعرفته، إلى «جبهة النصرة»، وليس إلى الجبهة التركمانية. وليس واضحاً إذا ما كانت هذه الشاحنات والشحنات برعاية بكر وشركة «سادات» هي نفسها شاحنات أسلحة النقل الخارجي التابعة للاستخبارات التركية. حينها، كان رئيس الجمهورية، عبد الله غول، يقول إن الشاحنات من «أسرار الدولة». أمّا وزير الداخلية، أفكان آلا، فيؤكد أنهم كانوا يفتّشون عن وسيلة لمساعدة التركمان السوريين، فكان الحلّ بشاحنات تشرف عليها الاستخبارات التركية. وهذا كان مثار استهجان الإعلام الذي تساءل: «إذا كانت النيّة مساعدات إنسانية، فلماذا تكون سرّية وعبر الاستخبارات وليست علنية وعبر الهلال الأحمر؟». الجواب في الحقيقة أنها لم تكن مساعدات إنسانية، بل أسلحة للتركمان و»جبهة النصرة» والمعارضة السورية. فنائب رئيس المجلس التركماني السوري، حسين العبد الله، قال، في حينه (2014)، في حديث إلى صحيفة «آيدينلق»، إن التركمان السوريين لم تصلهم أيّ مساعدات وقتذاك من تركيا، فيما ذكر رئيس الحركة التركمانية السورية، رامي قره علي، أنه سمع بالمساعدات عبر التلفزيون فقط، ولم يصل شيء منها.
تقول شركة «أوراسيا» للاستطلاع إن 75% من الناس يعتقدون بأن بكر يقول شيئاً صحيحاً


يقول محمد علي غولر، في مقالة نُشرت قبل يومين في صحيفة «جمهورييت»، إن شاحنات السلاح كانت تذهب إلى سوريا، سواء عبر الاستخبارات أم شركة «سادات»، أم شركات أخرى. ويؤكد الكاتب أن «سبباً وحيداً كان يدفع حزب العدالة والتنمية إلى إرسال السلاح، وهو العمل على إسقاط نظام بشار الأسد. ولكن مع فشل تركيا في ذلك، جنّ جنون أنقرة، وعملت على إقامة علاقة مع كلّ مَن يمكن أن يمثّل تهديداً للأسد، وهذا هو السبب الأساسي لحماية تركيا للمسلحين في إدلب. وعلى الرغم من تعاون تركيا مع روسيا، فإن السلطة في أنقرة لا تزال تصرّ على عدم الاعتراف بالأسد رئيساً». وهذا، يقول غولر، من الأخطاء الاستراتيجية لإردوغان الذي سبّبت عداوته للأسد أضراراً متعدّدة الأبعاد للمصالح التركية.
كذّب رئيس الوزراء السابق، أحمد داود أوغلو، ادّعاءات بكر بأن تهريب السلاح إلى سوريا تمّ في عهده في رئاسة الحكومة. وقال إن «الكشف عن تلك الشاحنات حصل في 19 كانون الثاني 2014، وقد كنت وزيراً للخارجية... ولم تكن للاستخبارات ذات العلاقة بالشاحنات، أو لرئاسة الأركان علاقة بوزارة الخارجية، على رغم التنسيق العالي الذي كان قائماً حينها بينهم، بل كان بكر في السجن. فكيف يمكن لبكر أن يرسل تلك المساعدات، ولا يخرج من السجن سوى في 10 آذار 2014؟».

اهتزاز الصورة
يكتب الصحافي إحسان تشارالان في صحيفة «إيفرنسيل» اليسارية، أن أهمية اعترافات بكر الأخيرة تكمن في أنها تكشف الوقائع من داخل البيت الواحد، ولا سيما في ما يتعلّق بسياسة تركيا تجاه سوريا، ومنها إرسال الأسلحة إليها، وتهريب البنزين والمواد الخام منها إلى تركيا عبر شركات تخصّ برات ألبيرق. يقول تشارالان إن بكر يقول شيئاً في كلّ مرّة، لكن ما لم يقله بعد سيكون أكثر أهمية، وسيطال رئيس الجمهورية، بعدما توعّده بالقول: «سنتكلّم في فيديو آخر ونتحاسب». ويرى تشارالان أنه ما دامت السلطة لم تتحرّك حتى الآن لتحاسب المتّهمين في اعترافات بكر، فإن الأخير رفع مستوى الاتهامات لتلامس رئيس الجمهورية. ويرى تشارالان أن الهمّ الأساسي لتحالف إردوغان - باهتشلي هو طيّ صفحة الفيديوات، فيما المعارضة تدعو رئيس الجمهورية إلى النزال في انتخابات رئاسية مبكرة تعتقد أنها ستربحها.
وتتساءل ألف تشاكير، الكاتبة المرموقة في صحيفة «قرار» المعارضة: «لماذا تمّ تجاهل إردوغان في الشرائط السابقة، وللمرّة الأولى يتمّ المسّ به؟ لقد وصل عدد المشاهدين لشرائط بكر إلى مئة مليون مشاهد. كان بكر، ومَن خلفه، يأملون أن يتحرّك إردوغان، ولا سيما تجاه وزير داخليته، لكنه لم يفعل، بل على العكس، أعلن دفاعه عنه، وأنه سيلاحق منظّمات الجريمة أينما هرب أعضاؤها». كما تتساءل تشاكير عن السبب وراء عدم تحرُّك الدولة، على رغم أن شركة «أوراسيا» للاستطلاع تقول إن 75% من الناس يعتقدون بأن بكر يقول شيئاً صحيحاً، و»في هذا الوضع، فإن 25% من ناخبي حزب العدالة والتنمية يثقون بما يقوله سادات بكر». وترى الكاتبة أن «وضع العدالة والتنمية يزداد صعوبة، بينما يفقد احترام ناخبيه، وتبرز أمام الرأي العام صورة الحزب الذي لا يجيب عن الأسئلة، والذي لا يحاسب بل يوزّع الجوائز على نواب سابقين ومسؤولين، ويُسكِت المعارضة القانونية، ولا يُنتج حلولاً لمشكلات البلد. والآن، تضاف إلى هذه الصورة تلك العائدة لحزب العدالة والتنمية المتحالف مع المافيا والمتعاون مع العصابات».