كشف لجوء قوى الأمن في كولومبيا، والمجموعات العسكرية الرديفة العاملة معها، إلى العنف المفرط والقتل الواسع النطاق، في مواجهة الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها البلاد ضدّ سياسات الرئيس اليميني، إيفان دوكي، الاقتصادية، عن استمرار اعتماد التطهير الاجتماعي (Limpieza social) كنمط في إدارة شؤون البلاد وغالبية سكّانها. تقرير لـ"معهد دراسات التنمية والسلام"، "أنديباز"، كان قد كشف قبل تعرّض المحتجّين للقمع الوحشي خلال الأسابيع الماضية، عن ارتكاب تلك الأجهزة ومجموعاتها الرديفة 90 مجزرة خلال عام 2020، والمجزرة بتعريفه هي قتل 3 أشخاص أو أكثر من المدنيين العزّل، في مناطق متفرّقة من البلاد. ووفقاً للتقرير، فإن 1091 من قيادات الحركات الاجتماعية وناشطيها، ومن المدافعين عن حقوق الإنسان، قد اغتيلوا منذ التوقيع على اتفاق السلام بين الحكومة الكولومبية والقوات المسلحة الثورية الكولومبية، "فارك"، في عام 2016، من قِبَل الأجهزة الأمنية وميليشياتها الموازية. هذه الأخيرة، وبعد التزام مقاتلي الـ"فارك" الـ 13000 ببنود الاتفاق، وانسحابهم من المناطق التي سيطروا عليها، وتجمّعهم في أخرى "انتقالية"، وتسليمهم سلاحهم، عمدت الى فرض سلطتها على المناطق المشار إليها، واغتيال 249 من قادة "فارك" ومقاتليها. ونظراً إلى الصلة العضوية بين الميليشيات الرديفة للجيش والأجهزة الأمنية والقسم الأعظم من تجّار المخدرات، وتبنّيها للقتل المنهجي للمعارضين، فإن العديد من الكولومبيين يطلقون على الحالة التي تعيشها كولومبيا اليوم تسمية "السلام المافيوي". يُمثّل هذا العنف المؤسَّسي، وسياسة التطهير الاجتماعي المستندة إليه، امتداداً للعنف الاستعماري والتطهير العرقي بحق السكّان الأصليين، والذي مارسه المستوطنون الأوروبيون عند اجتياحهم القارّة الأميركية، ولا يزال الكثير من بلدانها، وفي مقدّمتها كولومبيا، يعاني من مفاعيل هذه "الجريمة الأصلية" وتداعياتها على بناه السياسية والاجتماعية. [اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
التطهير الاجتماعي تعريفاً، هو العنف الممارَس على أسس طبقية ضدّ فئة محدّدة من السكّان من قِبَل أجهزة نظامية أو غير نظامية، لترويعها وإجلائها من أحياء ومناطق معينة في المدن والأرياف، عبر استخدام أساليب قتل مشهدية، غالباً ما تكون بالغة التوحّش. تندرج في هذا الإطار عمليات قتل أطفال الشوارع والمتسوّلين في مدن أميركا اللاتينية من قِبَل "فرق الموت"، المؤلّفة من أعضاء في الأجهزة الأمنية الحكومية وعصابات إجرامية تعمل تحت إمرتها، والتي راجت لعقود بدءاً من خمسينيات القرن الماضي، وحظيت بتغطية نسبية من وسائل الإعلام العالمية، بما فيها تلك الغربية. غير أن عمليات التطهير الاجتماعي الأكثر هولاً، والأوسع نطاقاً، والتي تُظهر صلة الرحم التي تجمعها بالتطهير العرقي الذي استهدف السكّان الأصليين منذ أن وطأت أقدام الغزاة البيض الغربيين أرض القارة الأميركية، هي تلك التي وقعت في الأرياف على امتداد قرون ولا تزال مستمرّة، ولو بدرجات متفاوتة، إلى الآن، ولم تحصل على التغطية الإعلامية الملائمة. كولومبيا، وريفها بشكل خاص، تحوّلت منذ ثلاثينيات القرن الماضي إلى مسرح مركزي للصراع بين مقاومة جماهير الفلاحين الفقراء، وجلّهم من السكان الأصليين أو من الملاطيين، من جهة، وبين كبار الملّاك العقاريين من أبناء العائلات ذات الأصول الأوروبية، والذين استولوا على أراضي البلاد الخصبة وتقاسموها في ما بينهم، من جهة أخرى. مطالبة الفلاحين بالإصلاح الزراعي، وشروعهم في السيطرة على أراض في بعض مقاطعات البلاد، كمقاطعة كوندينامركا أو مقاطعة توليما، وتشكيلهم فرق دفاع ذاتي ضدّ ميليشيات الملّاك العقاريين، أفضى إلى اندلاع مواجهات دامية معها بين 1945 و1948، وارتكاب تلك الميليشيات جرائم تطهير اجتماعي ــــ عرقي نجم عنها مقتل 15000 من الفلاحين وعائلاتهم. وفي 1948، أدى اغتيال أبرز قائد لليسار في البلاد، خورخي غايتان، إلى الدخول في حقبة من الاحتراب الداخلي، لُقّبت بـ"حقبة العنف" (la violencia)، استمرّت حتى بداية الستينيات، ويُقدَّر عدد ضحاياها بما بين 100,000 و300,000 شخص، قضوا معظمهم قتلاً على أيدي الأجهزة الأمنية والعسكرية الحكومية وميليشياتها الرديفة.
جميع التنظيمات الثورية، كالـ"فارك" أو "جيش التحرير الوطني" (ELN)، تشكّلت في هذا السياق، وفي الأرياف، لمجابهة التطهير الاجتماعي ــــ العرقي، والسعي إلى إسقاط نظام متحالف استراتيجياً مع الولايات المتحدة منذ انطلاق الحرب الباردة في أواخر الأربعينيات، ولدى قطاع من نخبه الحاكمة الأوروبية الأصل تماهٍ ثقافي ــــ أيديولوجي مع إسرائيل، كمشروع استيطاني "ناجح"، وتعاون وثيق معها في شتّى المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية. ونتيجة لحالة الحرب المديدة، أصبحت كولومبيا مختبراً لتقنيات وتكتيكات حروب مكافحة التمرّد، ونجح نظامها في حصر الأخيرة في بعض المراحل في الأرياف، وتصويرها على أنها نوع من العنف الطرفي (violencia residual) القابل للاحتواء والإدارة من دون تهديد النظام ومصالحه الاستراتيجية المشتركة مع حلفائه. وهو ظنّ أن لجوءه المتكرّر إلى الخداع، عبر استدراج القوى الثورية للموافقة على تسويات والتخلّي عن السلاح في مقابل تعهّدات سرعان ما ينقلب عليها، ويقود حملات اغتيال كبيرة لقادتها وعناصرها، كما فعل مع حركة "الـ 19 من نيسان" (M 19) في بداية التسعينيات، وكما يفعل حالياً مع "فارك"، سيسمح له بتأبيد سيطرته على الشعب الكولومبي وقواه الحيّة. غير أن الاحتجاجات الشعبية المتعاظمة التي تجتاح جزءاً معتبَراً من المدن والبلدات، خلف شعار: "عندما تكون الحكومة أخطر من الفايروس، يجتاح الشعب الشوارع"، قد يؤسّس لمرحلة جديدة من المواجهة مع نظام التطهير الاجتماعي ــــ العرقي وحلفائه في واشنطن. انتظر هؤلاء سقوط كاراكاس، غير أن الأرض بدأت تميد تحت أقدام الحاكمين في بوغوتا!