تعيش المدن الكولومبية على صفيحٍ ساخن مهدَّد بالانفجار في أيّ لحظة نتيجة العصيان المدني ضدّ إجراءات الحكومة النيوليبرالية. وعلى رغم الهدوء النسبي الذي ساد العاصمة بوغاتا، في الأيام الأخيرة، لا يبدو أن المفاوضات القائمة بين حكومة الرئيس الكولومبي المحافظ، إيفان دوكي، واللجنة الوطنية للبطالة، توصّلت إلى نتائج ملموسة بشأن الوضع المتوتّر في البلاد، حيث شهدت الأسابيع الأخيرة موجة تظاهرات شعبية غير مسبوقة، على خلفية قانون إصلاح ضريبي جديد كانت الحكومة تعتزم إقراره. ويقضي القانون بفرض ضرائب على الخدمات الأساسية، وبتعديل قانون التأمين الصحي ليحرم أغلب قطاعات الشعب منه، في محاولة لتخفيف الأثر الاقتصادي الذي خلّفه الانتشار الكبير لوباء "كورونا" في كولومبيا. وعلى هذه الخلفية، دخلت البلاد، منذ الـ28 من نيسان/ أبريل الماضي، في إضراب عام وتظاهرات عمّت معظم المدن والقرى الكولومبية، ضدّ رئيس البلاد. وعلى رغم أن دوكي كان قد تراجع عن إقرار القانون الضريبي في الكونغرس تحت ضغط الشارع، إلّا أن هذه الموجة لم تهدأ، خصوصاً بعد إقدام شرطي على قتل فتى في الـ17 من عمره بطلقتين في الظهر، وجرح طفل برفقته في سن الـ13. هذه الحادثة فاقمت الوضع صعوبة بالنسبة إلى السلطة، إذ حوّلت الفتى المقتول، مارسيلو أغريدو، إلى أيقونة المطالب الشعبية بالعدالة والديموقراطية، وزخّمت التظاهرات ضدّ سياسات الحكومة في بلدٍ يشهد فجوة هائلة بين طبقاته الاجتماعية، مع اتّساع رقعة الفقر والبطالة، التي ارتفعت، وفق أرقام حكومية، إلى أكثر من 42% (الفقر)، وزادت البطالة بنسبة 16% العام الماضي، فيما تراجع الناتج المحلي الإجمالي لرابع أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية، بنسبة 6.8% في العام نفسه.
أدّى قمع الشرطة المتظاهرين إلى سقوط أكثر من 50 شخصاً وإصابة الآلاف


وعلى الرغم من أن المفاوضات الجارية بين الحكومة واللجنة الوطنية للبطالة التي تضمّ قادة النقابات والطلاب، لنزع فتيل الاحتجاجات، بمراقبة من الأمم المتحدة، والتغيير الظاهر من قِبَل حكومة دوكي الذي خرج مراراً بخطاب "تصالحي"، إلّا أن الكولومبيين مستمرون في هذه الموجة، التي تعاظمت خلال الأيام العشرين الماضية، وسط إصرار منهم على إسقاط الحكومة والرئيس الكولومبي؛ إذ تطوّرت الاحتجاجات لتشهد مواجهات مع الشرطة، التي لا تنفكّ تقمع المتظاهرين وتمارس العنف في حقّهم، فيما لجأ المتظاهرون إلى إقامة حواجز كانت محلّ انتقاد من دوكي الذي اعتبرها "غير سلمية وتنتهك حقوق أشخاص آخرين"، مطالباً بـ"وضع حدٍّ لهذه التحركات التي تؤثّر في عمليات التموين والإمداد في مناطق مختلفة، ولا سيما على صعيد المحروقات والأدوية والمواد الغذائية"، ومؤكداً رفضه "طريقة التعبير العنيفة" من قِبَل المحتجين. اللافت في الأمر أن الرئيس نفسه لم يردع الشرطة والجيش عن استخدام الرصاص الحيّ لتفرقة المتظاهرين الذين سقط منهم أكثر من 50 شخصاً، فضلاً عن آلاف الإصابات - وهو ما كان محطّ انتقاد على المستوى الدولي، خصوصاً من جانب الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي -، بل حتى أن دوكي رفض الاعتراف بتجاوزات الشرطة، مؤكداً أنهم عملوا "في إطار تطبيق مطلق للدستور"، وأن الانتهاكات جاءت على خلفية "سلوك فردي". في الوقت نفسه، شدّد دوكي على أن "أفراداً من قوات الشرطة تعرّضوا لاعتداءات"، مشيراً إلى 65 إجراءً تأديبياً ضدّ رجال أمن، بينهم ثمانية بتهمة القتل، و11 بتهمة الاعتداءات الجسدية، و27 بسبب إساءة استخدام السلطة.
وبالتوازي مع الوضع الصعب التي تواجهه الحكومة على المستوى الشعبي، يبدو أن الوضع السياسي يتفاقم أيضاً، حيث أقدم وزيران على الاستقالة على خلفية التطورات، وهما وزيرة الخارجية كلوديا بلوم، ووزير المالية ألبرتو كاراسكويلا، وهو من اقترح مشروع قانون زيادة ضريبة القيمة المضافة وتوسيع قاعدة الضريبة على الدخل الذي أشعل الاحتجاجات. في المقابل، حظيت الحكومة بمدافعين عنها، من مثل وزير الدفاع الكولومبي، دييغو مولانو، الذي اعتبر أن كولومبيا "تواجه التهديد الإرهابي من المنظمات الإجرامية، التي تتنكر في شكل مخرّبين، وتضايق مدن مثل كالي وبوغوتا وميديلين وبيريرا ومانيزاليس وباستو لزعزعة الاستقرار"، في إشارة إلى القوات المسلحة الثورية الكولومبية "الفارك"، التي رفضت اتفاق السلام المبرم في 2016 مع المعارضين السابقين وجيش التحرير الوطني. في خضم كل هذه التطورات، لا يبدو أن تهدئة قريبة تلوح في الأفق، ولا سيما في وقتٍ يسير فيه الحوار ببطء ومن دون تحقيق نتائج حقيقية لحلحلة الوضع المتفاقم في البلاد، والذي يخشى مراقبون أن يتطوّر إلى حرب أهلية.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا