لندن | مُني حزب «العمل» البريطاني، بقيادة البرجوازي اليميني كير ستارمر، بأفدح خسارة انتخابية له منذ عقود، في الانتخابات البلدية التي جرت نهاية الأسبوع الماضي، وتُعتبر بمثابة أهمّ اختبار نصفيّ أثناء فترة انعقاد البرلمان، لتوجّهات الناخبين البريطانيين تجاه أداء مؤسّساتهم السياسية. لكن الهزيمة الأكثر رمزية لهذا الأداء الباهت للحزب الذي يقود المعارضة لحكومة حزب «المحافظين»، تمثّلت في الانتخابات البرلمانية الفرعية في مدينة هارتلبول، وهي معقل عمّالي صرف، قيل يوماً إن «أصوات العمّال فيها توزن وزناً ولا تعدّ»، كنايةً عن غلبة الطبقة العاملة عليها؛ إذ انتهى المقعد إلى حزب «المحافظين» الحاكم، بفارق مريح زاد على 7000 صوت (15529 صوتاً، أي أكثر من 52 في المئة من الأصوات المُدلى بها)، مقابل 8589 صوتاً لمرشّح حزب «العمل». وبذلك، انعكس أكبر تحوّل في نسبة الأصوات التي حصل عليها «المحافظون» في أيّ انتخابات برلمانية منذ الحرب العالمية الثانية، بزيادة هائلة بلغت 23 نقطة مئوية، فيما تقلّص تأييد حزب «العمل» بشكل مهين، إلى 29 في المئة فقط. وفي المقاييس الانتخابية البريطانية، تُمثّل تلك النتيجة زلزالاً سياسياً لم يسبق له مثيل في الذاكرة الحيّة. وظهرت الهزيمة المذلّة على وجه المرشّح اليميني لحزب «العمل»، الدكتور بول ويليامز، لدى إعلان النتيجة، ومسارعته إلى الخروج من قاعة فرز الأصوات عبر باب خلفي، رافضاً الإدلاء بأيّ تعليق إلى الصحافة. لكن المطّلعين على ديناميكية التصويت في هارتلبول يقولون إن هذه النتيجة لا تعكس بالضرورة ثقة الطبقة العاملة البريطانية بحكومات «المحافظين» المتعاقبة، ولا سيّما أن متوسّط الأجور في البلدة أقلّ بكثير من حيث القيمة الحقيقية قبل عشر سنوات، وبعد عقد من هيمنة «المحافظين» على السلطة، وإنما هي تُعدّ تعبيراً صريحاً عن انحسار الثقة الشعبية بالقيادة اليمينيّة لحزب «العمل»، التي أقصت جيريمي كوربن زعيم التيّار اليساري للحزب - الأكبر أوروبياً من حيث عدد الأعضاء -، واستبدلت برفاقه مجموعة من السياسيين البرجوازيين الذين قدّموا لحكومة «المحافظين» - يمين - دعماً لم تكن تحلم به، على رغم تخبّطها الشامل في السياسات الخارجية، وفي إدارة ملف «كوفيد - 19»، وفضائح الفساد شبه اليومية. وكان يمين «العمل» من أتباع توني بلير - رئيس الوزراء البريطاني السابق - قد نفّذ انقلاباً ضدّ القيادة اليسارية، بعد خسارة الانتخابات العامّة الأخيرة (2019)، وتولّى ستارمر (الحاصل على لقب فارس من الملكة إليزابيث الثانية) دور زعيم المعارضة، وبذل جهوداً استثنائية لتلوين الحزب بصبغة «الوفاء» للنظام الرأسمالي. وقد تسبّب هذا الانعطاف نحو اليمين في خسارة 100 ألف من الأعضاء المسجّلين (أي 20 في المئة)، مع تراجع ملموس في دعم البريطانيين للحزب في كلّ استطلاعات الرأي.
كان يمين «العمل» من أتباع توني بلير قد نفّذ انقلاباً ضدّ القيادة اليسارية


لذلك، لا يمكن الحديث عن مفاجأة في هارتلبول. فلا عجب أن العديد من الناخبين من الطبقة العاملة في المدينة امتنعوا عن التصويت، أو صوّتوا للأحزاب الأخرى، بما فيها «المحافظين»، نكاية بيمين «العمل»، حيث تدنّت نسبة المشاركة إلى 43 في المئة من مجموع الناخبين، وهي أدنى نسبة منذ أكثر من عقد. وما أسهم في تلك النتيجة هو أن قيادة ستارمر فرضت على السكّان مرشّحاً عن الحزب للمقعد التكميلي غير مقبول شعبيّاً بكلّ المقاييس. فالدكتور بول ويليامز - المرشح الخاسر - نائب يميني سابق معادٍ لتيّار كوربن، ومؤيّد بارز للاحتفاظ بعضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. وبالتالي، فقد كانت فرص نجاحه معدومة في المدينة المؤيّدة بشدّة لكوربن (الذي كان قد حصل على 53 في المئة من أصوات المدينة في الانتخابات العامّة، عام 2017، وهو رقم قياسي)، وصوّتت بشكل حاسم (70 في المئة) لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد، في الاستفتاء الشعبي حول ذلك (عام 2016).
ولم يتعرّض حزب «العمل للإذلال في هارتلبول فحسب، بل وأيضاً في سلسلة من مقاعد المجالس البلدية في مختلف أنحاء البلاد، بما فيها شيفيلد ودودلي وهارلو ونورثمبرلاند. وعلى النقيض من ذلك، تقدّمت جميع الأحزاب، ولا سيّما حزب «الخضر» (وسط) - الذي طرح نفسه على أنه مناهض للتقشّف -، وحقّقت مكاسب جيّدة على حساب قاعدة «العمل» حصراً. وحاول ستارمر التنصّل من المسؤولية عن هذا الإخفاق الذريع، من خلال استعادة الحديث عن «جبل» ينبغي صعوده لتعويض خسارة الانتخابات العامّة عام 2019. وبعبارة أخرى، فقد حاول - كعادته - إلقاء اللوم على سلفه كوربن. وتعهّد، في أوّل حديث له بعد إعلان النتيجة، بإجراء إعادة تشكيل للطاقم القيادي في الحزب، وتقديم وجوه جديدة. وسارع بعض عتاة اليمين في الحزب، بدورهم، إلى دعم زعيمهم، إذ حمّل اللورد مندلسون كارثة هارتلبول «لاثنين تبدأ أسماؤهما بحرف C: أي كوفيد - 19 وكوربين». وقال ستيفن كينوك، اليميني المعروف: «علينا أن نفهم حجم ووتيرة التحوّل الذي يحتاج إليه حزبنا»، بمعنى العودة لـ»البليريّة» نصيرة النيوليبراليّة. وقال نائب «بليري» آخر: «لقد تغيّرت قيادتنا نحو الأفضل، لكن الناخبين ليسوا مقتنعين بأن حزب العمّال قد تغيّر أيضاً». وأضاف: «أنها مهمّة ضخمة وملحّة». لكن ستارمر وزمرته يتجاهلون غياب أيّ رؤية حقيقية لدى القيادة الحالية لمخاطبة البريطانيين، الذين تعاني أغلبيّتهم من مصاعب اجتماعيّة واقتصادية مروّعة. ويعيش ربع السكّان في المملكة المتّحدة تحت خطّ الفقر، ويكتفي الملايين بوجبة أو وجبتين في اليوم، في دولة تُعتبر خامس أغنى اقتصادات العالم.
في المقابل، بدا أن قاعدة الحزب بدأت بالتملمُل بعد الهزيمة الكارثية، حيث تصاعدت أصوات الخطّ الماركسي في الحزب وبعض اتحادات العمّال بضرورة استيفاء الدرس من هارتلبول والانتخابات البلدية، وطرح الثقة بالقيادة اليمينية. ونقلت الصحف عن ديف وارد، وهو أحد النقباء، قوله إن «حزب العمّال يتّجه ليكون حزباً هامشياً تحت قيادة ستارمر». ويبدو أن ذلك أثار قلق «البليريين»، إلى درجة أنهم يفكّرون الآن في استبدال ستارمر نفسه. وقال عضو مجلس اللوردات، أندرو أدونيس: «يجب أن نعترف: الحزب لا يستطيع الفوز مع زعامة ستارمر». وأضاف: «لقد دعمت كير ليحلّ محلّ جيريمي ويستعيد القيادة من أيدي اليسار المتطرّف الماركسي، متأمّلاً أن يكون لدى كير، وهو مدّعٍ عام سابق، الكفاءة القيادية والرؤية الفكرية للديموقراطية الاجتماعية لإعادة تشكيل حزب العمل. ولسوء الحظ، تبيّن أنه شخصية انتقالية، رجل لطيف ومحامٍ جيد في مجال حقوق الإنسان، ولكنه يفتقد بوضوح المهارات السياسية». وحذر أندرو سثرغود، الرئيس المشارك لـ»تجمّع مومنتوم» - تنظيم شبابي داخل الحزب -، من جهته، من أنه «إذا لم يغيّر ستارمر اتجاهه سريعاً، فلن يكون خارج الحزب فحسب، بل قد يكون حزب العمل كلّه خارج الحكومة إلى الأبد».
وليس «العمل» البريطاني حزباً بالمفهوم التقليدي، بقدر ما هو ائتلاف عريض من النقابات العمّالية والحركات السياسية الصغيرة والسياسيين المحترفين، تحت مظلّةٍ يسارية فضفاضة. لكن الحزب منقسم فعليّاً بين تيارَين رئيسيَّين: يمين برجوازي يجمع بين أتباع توني بلير وأنصار إسرائيل وأعضاء «الجمعية الفابيّة» من جهة، ويسار يجمع أنصار كوربن والماركسية، من جهة أخرى. ومن دون أن يحسم اليسار موقفه بوضوح، ويعلن حرباً صريحة على «البليريين» بدل الانتظار وتلقّي الإهانات، فإن المستقبل يبدو قاتماً للحزب؛ إذ فقدت الطبقة العاملة الأمل في التغيير السياسي، وعادت ظاهرة تردّي أعداد المقترعين إلى المناسبات الانتخابية. لذا، فإن العَقد الطويل المفقود (2010 - 2020) تحت حكم «المحافظين» مرشّح الآن للتمدّد حتى عام 2030 على الأقل.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا