لندن | عادت إيرلندا الشمالية إلى عناوين الصحف ومقدّمات نشرات الأخبار، خلال شهر نيسان/ أبريل الحالي، بعدما تجدّدت أعمال العنف في المناطق التي تغلب عليها كثافة بروتستانتية موالية للتاج البريطاني. ونقلت وسائل الإعلام صوراً لمركبات أُضرمت فيها النيران، ولشبّان غاضبين يلقون قنابل حارقة، محذّرة من عودة الإقليم الخاضع لحكم لندن إلى»الأيّام الخوالي السيّئة وقت مرحلة الاضطرابات». ووصلت إلى حدّ دقّ ناقوس الخطر بشأن «هشاشة اتفاق 1998 للسلام، بين الكاثوليك الساعين إلى وحدة الجزيرة الإيرلندية وإنهاء الاحتلال البريطاني المستمر منذ عام 1541، والبروتستانت الذين يريدون البقاء جزءاً من المملكة المتحدة». ولم يتوقّف المحلّلون عن التذكير بحقيقة ترافق أعمال العنف الأخيرة مع الذكرى الثالثة والعشرين لتوقيع الاتفاق ــــ الشهير بـ»اتفاق الجمعة العظيمة» ــــ الهادف إلى إنهاء العنف الطائفي في إيرلندا الشمالية «إلى الأبد». كذلك، لم يكن رئيس وزراء جمهورية إيرلندا ميشال مارتن، ورئيس وزراء المملكة المتّحدة بوريس جونسون، إضافة إلى الرئيس الأميركي جو بايدن، بعيدين، بدورهم، عن إدانة العنف وحثّ السكان على الهدوء، خشية تصاعد أعمال الشغب المحلّية إلى عنف أكثر عمومية.وعلى الرغم من تقارير أولية تحدّثت عن شخصيات غامضة تتلاعب بالشبّان الفقراء من الموالين للندن، الذين يعيشون على هامش الحياة الاقتصادية في الإقليم، واحتمال تورّط مافيا المخدّرات في أعمال التحريض، إلّا أن تفسيرات أخرى سرعان ما ظهرت تباعاً. إذ سلّط المعلّقون والسياسيون الموالون الضوء على تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي و»بروتوكول إيرلندا الشمالية» ضمن اتفاق «بريكست»، والذي أبقى على الحدود المفتوحة للإقليم مع الجمهورية الإيرلندية، كأسباب لسخط الموالين، إلى جانب قرار عدم مقاضاة كبار ساسة الحزب الجمهوري الإيرلندي (الشين فين)، لخرقهم، الصيف الماضي، تعليمات الوقاية من «كوفيد - 19»، خلال جنازة أحد كبار الشخصيات في تنظيم «الجيش الجمهوري الإيرلندي»، بوبي ستوري. وفي حين أدان الجميع علناً مظاهر العنف، فقد جادل أنصار بريطانيا في بلفاست بأن مجتمعهم تعرّض للخيانة من قِبَل ويستمنستر (مقرّ البرلمان في لندن) بتصديقه على البروتوكول العتيد، وأن لديهم شعوراً بالإحباط بسبب تراجع مكانتهم، في وقت بدا فيه القوميّون كأنهم سيصبحون أصحاب اليد العليا في الإقليم. وسرعان ما توالت الإدانات المتبادلة وفصول لعبة اللوم المعتادة، وكذلك محاولة السياسيين والحكومات كسب نقاط من وراء أعمال العنف. ودعت أرلين فوستر، الوزيرة الأولى في حكومة الإقليم المحلية، إلى استقالة سيمون بيرن، رئيس شرطة الأمن الوطني، لأخطائه في جنازة ستوري، فيما كان ميشال مارتن من دبلن يحضّ جميع الأطراف على دعم شرطة الأمن الوطني وأجهزة حفظ النظام. وفي الحقيقة، لم تهدأ أعمال العنف إلّا لدى الإعلان عن وفاة الأمير فيليب، دوق أدنبرة، يوم الجمعة 9 نيسان/ أبريل الحالي، وصدور دعوات من الجماعات الموالية إلى تأجيل «جميع احتجاجات الطائفة البروتستانتية الوحدوية الموالية كعلامة احترام للملكة والعائلة المالكة».
يبدو القوميّون كأنهم يكسبون تدريجياً في مرحلة ما بعد عام 1998


لكن تعامل مختلف الجهات مع تجدّد أحداث العنف، بوصفها حدثاً من خارج سياق الوضع الطبيعي وعودة إلى ماضٍ أسود لمجتمع يحكمه اتفاق نهائي لإنهاء العنف الطائفي، يتناقض مع واقع التناقضات العميقة التي لا تزال تحكم حياة الأقاليم الإيرلندية المحتلّة. والحقيقة أن عملية السلام وما تمخّض عنها من اتفاق في عام 1998، كانا مصمّمَين بشكل أساسي لإدارة الصراع واحتوائه في المقام الأول، وإيجاد صيغة لتجميد الأوضاع القائمة بغرض تمديد هيمنة لندن على الإقليم. وعلاوة على ذلك، وخلال الأزمات المتكرّرة التي اتّسمت بها السنوات الـ 23 الماضية، لم ينجح الاتفاق إلّا في بناء مؤسّسات سياسية منقسمة وخلق ديناميات تكرّس التباين الطائفي المفتعل. وفي ضوء ذلك، لا يبدو تجدّد أحداث العنف أمراً مفاجئاً، وإن كانت قد اتّسمت هذه المرّة ببعض تفاصيل مثيرة للاهتمام، إذ اقتصرت إلى حدّ كبير على المناطق الموالية، مثل طريق شانكيل في بلفاست وخليج تايغرز، إلى جانب مناطق مماثلة في نيوتاونابي وكاريكفيرجس المجاورتين، إضافة إلى مشاغبات متفرّقة في المناطق الموالية في ديري، وبعض المدن الصغيرة الأخرى. وفي حين أن العنف الموالي كان موجّهاً إلى حدّ كبير إلى قوات الشرطة، فإن أخطر المشاغبات شملت شبّاناً من شانكيل الموالية يواجهون شبّاباً من منطقة طريق سبرينغفيلد القومية، في غرب بلفاست على طول واجهة طريق لانارك. وجاء هذا في وقت منعت فيه الشرطة مواجهة مماثلة بين الجانبين في شمال بلفاست، بين حي نيو لودج (القومي) وخليج تايغر (الموالي). واستخدمت الشرطة خراطيم المياه عدّة مرّات، أثناء المواجهات مع الشباب القوميين الذين تجمّعوا على طريق سبرينغفيلد استعداداً لمواجهة غارات محتملة للموالين على مناطقهم. وفي المشهد الكلّي، فإن أعمال الشغب اقتصرت على مناطق جغرافية محدودة جداً، لها خبرة طويلة في مثل هذا العنف، وكانت الأعداد المتورّطة فيها صغيرة نسبياً (بالمئات، وليست بالآلاف).
الحرمان الاجتماعي، والبطالة، وشعور الأجيال الجديدة بالاستبعاد والاغتراب، وانغلاق آفاق المستقبل، كلّها عوامل توفّر الموارد البشرية الخام اللازمة للاضطرابات. لكن التكوينات السياسية والمجتمعية في إيرلندا الشمالية هي التي تحدّد كيفية تعبير هؤلاء الشبّان الساخطين عن غضبهم. وعلى المستوى السياسي، يحاول المسؤولون الموالون للتاج حشد أتباعهم، من خلال سياسة التظلّم وإعلان الاستياء الموجّه إلى حدّ كبير ضدّ مواطنيهم القوميين، بدلاً من انتقاد النظام. وفي الواقع، فإن التحوّلات الديموغرافية لمصلحة الكاثوليك، والتردّي المستمر للتكوينات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للموالين، منذ سبعينيات القرن العشرين، والقبول القسري بتقاسم السلطة مع القوميين في البرلمان المحلّي للإقليم، كلّها عوامل زعزعت استقرار الكتلة البروتستانتية وقوّضت الثقة بالنفس لدى القيادة السياسية وأتباعها على حدّ سواء. وعلى النقيض من ذلك، يبدو القوميّون كأنهم يكسبون تدريجياً، في مرحلة ما بعد عام 1998، حيث يلعب التاريخ والديموغرافيا والعلاقة بالاتحاد الأوروبي لمصلحة قضيّتهم: إعادة توحيد إيرلندا. وفوق ما تقدّم كلّه، خَلق «بروتوكول إيرلندا الشمالية» شعوراً مريراً لدى الموالين بالخيانة، وتذكيراً صارخاً لهم بحقيقة علاقة الاحتلال التي تربط بين لندن والإقليم. ولا يبدو بوريس جونسون بتصريحاته الأخيرة بشأن كسر بعض مواد البروتوكول، بصفتها مخالفة للقانون الدولي ولاتفاق «بريكست»، لمصلحة تمتين علاقة الإقليم ببريطانيا، قادراً على استعادة ثقة الموالين في بلفاست قريباً، فيما سيُدخله ذلك حتماً في دوامة احتكاك جديد بالأوروبيين.
هذا هو السياق السياسي الأوسع لاندلاع أعمال الشغب في المناطق الموالية، حيث ثمّة مجموعات متنوّعة من المراهقين المهمّشين الساخطين وبقايا قوّات شبه عسكرية، لن يكون بمقدورها، من دون تدخّل بريطاني حاسم لمصلحتها ــــ لا ترغب به لندن في المرحلة الحالية على الأقلّ ــــ، وقف مسيرة توحيد الجزيرة الإيرلندية، ولا منع تصحيح جرائم الاستعمار.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا