كثيرة هي «حوادث» تتعرض لها وسائل نقل مدنية ولا يؤدي التحقيق بشأنها إلى خلاصات نهائية ولا يتمكن المحققون من جمع كامل الدلائل التي يمكن أن تفصل بين الخطأ التقني أو غير المقصود من جهة، والسلوك الجنائي والنية الجرمية والإرهاب من جهة ثانية. وقد تبين أخيراً من خلال الكشف عن وثائق سرية رسمية تعود لوكالة الاستخبارات الأميركية أنها سعت إلى افتعال «حادث» لطائرة مدنية عام 1960 كان مسارها بين العاصمة التشيكية براغ والعاصة الكوبية هافانا، بهدف تصفية القائد الكوبي راوول كاسترو الذي كان على متنها برفقة مجموعة من معاونيه
فشل الأميركيون في تصفية راوول كاسترو وها هو اليوم في نهاية العقد التاسع (89) يسلم الأمانة العامة للحزب الشيوعي الكوبي إلى الرئيس ميغيل دياز - كانيل، الذي تعهد الالتزام باستمرارية الحكم وثباته على مبادئ الثورة الكوبية. ثورة شعبية في جزيرة صغيرة انتصرت قبل ما يزيد على ستة عقود، وما زالت حتى اليوم تعاني من حصار خانق بسبب تجرؤها على تحدي إرادة الولايات المتحدة الأميركية.
في 11 حزيران 1975 صدرت مذكرة عن اللجنة المختصة للنظر في أنشطة وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي أي) في مجلس الشيوخ الأميركي موجهة إلى دائرة السجلات وهي عبارة عن مقابلة مع عميل سرّي اسمه وليام موراي (يبدو من المراسلات أنه كان المشرف على محطة سرية للوكالة في هافانا). أجريت المقابلة يوم 19 أيار 1975 في مكاتب اللجنة في واشنطن.
تحدث موراي خلال المقابلة عن «تبادل رسائل بشأن احتمال وقوع حادث على متن طائرة كانت تنقل راوول كاسترو وعدد من المسؤولين الكبار في الحكومة الكوبية». وقال موراي بحسب المذكرة السرية التي كُشف عنها أخيراً (المستند رقم 1) أن أحد عملائه المحليين – كابتن في الخطوط الجوية الكوبية Cubana Airline يدعى خوسيه راوول مارتينيز نونيز – أبلغه أنه «سيكون كابتن الطائرة التي ستقلّ راوول كاسترو وآخرين إلى أوروبا» في تموز 1960. وتابع نص المذكرة: «عندما أبلغ موراي المقر العام (قيادة وكالة الاستخبارات الأميركية) بذلك أبرقوا له جواباً قالوا فيه إنهم مهتمون باحتمال وقوع حادث قاتل».
اتصل موراي بخوسيه مارتينيز مباشرة بعد تلقيه هذه البرقية «لمناقشة الموضوع معه». لكنه زعم لاحقاً أنه «بعد ساعة من الوقت» أبرقت قيادة وكالة الاستخبارات الأميركية له مجدداً «لتغيير التوجيهات» لكن «البرقية تأخرت» ولم يكن ممكناً إلغاء العملية. ويتبين بعد تفحّص المستندات أن البرقية الأولى وصلت الساعة التاسعة صباحاً، أما البرقية الثانية فوصلت الساعة العاشرة صباحاً بينما غادرت الطائرة التي كان على متنها العميل مارتينيز هافانا في الساعة الثالثة بعد الظهر، لكن موراي لم يُعلم مارتينيز بتخلّي الـ«سي آي أي» عن العملية، بحسب ما زُعم في البرقية الثانية قبل مغادرته كوبا. والسؤال الذي يُطرح هو عن سبب عدم قيام الوكالة بأي محاولة لإبلاغه بالأمر أثناء وجوده في براغ، في حال كانت فعلاً قد ألغت العملية. وهل كانت البرقية الثانية ومزاعم العميل موراي مجرّد محاولة لتبرئة وكالة الاستخبارات الأميركية من عملية إرهابية مبطنة لطائرة مدنية كانت ستودي بحياة عشرات الأشخاص بمن فيهم قائد كوبي كبير لو نجحت؟
أفاد موراي في المقابلة أن الكابتن خوسيه مارتينيز لم يتلقَّ أموالاً منه، لكنه كان قد «حوّل له مبلغ ألف وخمسماية دولار». أما بشأن عدم إبلاغه مارتينيز بإلغاء العملية، فقال موراي إنه «لا يعرف كيف وقع الخطأ»، مدّعياً أنه «علم لاحقاً أن البرقية الأولى التي وصلت له كانت قد صدرت من دون أن تكون قد حظيت بالموافقة الدقيقة (without adequate clearance)».
لكن، هنا أيضاً، يبدو أن مزاعم موراي في مذكرة اللجنة المختصة للنظر في أنشطة وكالة الاستخبارات الأميركية تهدف إلى حماية الوكالة من أي اتهام لاحق لها بتحضير عملية اغتيال إرهابية، إذ يستبعد صدور برقية رسمية عن وكالة الاستخبارات الأميركية إلى عملائها في هافانا من دون أن تحظى بالموافقة من أعلى السلطات، خصوصاً إذا كان الأمر يتعلق بتصفية قيادات كوبية رفيعة في أوج الحرب الباردة. أضف إلى ذلك أن البرقية السرية التي كان قد تلقاها موراي في هافانا مصدرها «مدير» في وكالة الاستخبارات الأميركية، ولم يتّضح إذا كان مدير الوكالة أو مدير فرع لكن مجرد صدورها عن «مدير» في وكالة الاستخبارات يدحض مزاعم موراي بعدم صدور الموافقة الدقيقة على التحضير لـ«حادث» إيذاء طائرة مدنية في طريقها من براغ الى هافانا.
ورد في الوثيقة (المستند رقم 2) طلب من موراي التحقق إذا كانت حوافز العميل خوسيه مارتينيز «كافية لاحتواء مخاطر ترتيب الحادث». إن استخدام مصطلح «ترتيب الحادث» (arranging the accident) لطائرة مدنية في برقية رسمية صادرة عن مدير في وكالة رسمية تابعة للحكومة الأميركية هو بمثابة دليل قضائي جنائي على ضلوعها في الإرهاب الدولي. نص البرقية يطلب من موراي الاتصال بمارتينيز «للتأكد من تعاونه والاطلاع على اقتراحاته بشأن التفاصيل».
أما البرقية الثانية التي زعم العميل موراي للجنة المختصة النظر في أنشطة وكالة الاستخبارات الأميركية أنه لم يطلع عليها فور ورودها، فكانت شديدة الاختصار حيث جاء فيها «لا تتابع ما ورد في البرقية السابقة. نريد التخلي عن الموضوع». (المستند رقم 3).
على أي حال إن تاريخ البرقية الأولى والثانية (المستندان رقم 2 و3) المذكورتين آنفاً هو 21 تموز 1960. وفي اليوم التالي (22 تموز 1960)، وبالرغم مما ورد في البرقية الثانية، أرسل موراي برقية عاجلة إلى مديره (المستند رقم 4) ذكر فيها أنه تواصل مع خوسيه مارتينيز «قبل مغادرة الطائرة». وأشار إلى أن الكابتن «مستعدّ للمجازفة المحسوبة»، مضيفاً أنه يمكن تنفيذ العملية لتظهر كأنها حادث، من خلال تخريب محرك الطائرة في مرحلة الإقلاع أو الهبوط في المحيط ثلاث ساعات قبل موعد الوصول إلى هافانا. وتتابع البرقية أن مارتينيز لم يكن مقتنعاً بتعطيل محرك الطائرة خلال الرحلة لأن ذلك قد يؤدي إلى اشتعال النيران ولن ينجو أي من الطاقم والركاب. وشكّك الكابتن العميل في قدرته على تعطيل الطائرة في مدرج المطار لأن الحراسة قد تكون مشددة؛ كما شكك في «قدرته على تنفيذ حادث فعلي من دون المخاطرة بحياة جميع الأشخاص على متن الطائرة لكنه مستعد للمحاولة».
وفي نص مذكرة سرية موجهة إلى «المفتش العام» عبر نائب مدير العمليات في وكالة الاستخبارات الأميركية، بتاريخ 17 كانون الثاني 1975 (المستند رقم 5) وردت تفاصيل إضافية دقيقة عن الاجتماع بين مواري ومارتينيز قبل مغادرة الأخير هافانا يوم 21 تموز 1960 متوجهاً إلى براغ: انعقد الاجتماع في سيارة مارتينيز الخاصة خلال توجهه إلى المطار. «طلب مارتينيز ضمانات في حال وفاته بأن تتولى الحكومة الأميركية كلفة التعليم الجامعي لنجليه. وقد قدمت له شفهياً». أضيف إلى ذلك وعدٌ ورد في مستندات سرية أخرى بتقاضيه مبلغ عشرة آلاف دولار.
فشلت العملية وأبلغ مارتينيز مشغله الأميركي بعد عودته أنه «لم تكن لديه فرصة لترتيب الحادث الذي تناقشنا بشأنه قبل مغادرته».
وبعد تفحص المستندات السرية والتعمق في البحث يمكن الاستنتاج بأن إفشال العملية الإرهابية التي استهدفت طائرة مدنية كوبية يعود إلى كفاءة جهاز الأمن الكوبي حيث إن مساعد الكابتن العميل خوسيه فيرنانديز في الرحلة ذهاباً وإياباً بين هافانا وبراغ كان العضو في الحزب الشيوعي الكوبي سيزار الاركون، مدير العمليات في الخطوط الجوية الكوبية، ورئيس نقابة الطيارين الكوبيين. وهو طيار حربي، وكانت مهمته مراقبة أداء جميع العاملين في الخطوط الجوية بمن فيهم الكابتن مارتينيز.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا