مع تركُّر الأنظار على قرار الرئيس الأميركي، جو بايدن، الانسحاب من أفغانستان في غضون خمسة أشهر، يشتغل «البنتاغون» على صقل خططٍ لا تزال «سرّية» لإعادة نشر القوات الأميركية في دول آسيا الوسطى (طاجيكستان وكازاخستان وأوزبكستان)، بدعوى «مكافحة الإرهاب» ومنْع تنظيماته من استعادة المبادرة يومَ يغادر آخر جندي «أطلسي» الأراضي الأفغانية. في ضوء ما سبق، يصبح قرار «الانسحاب» أقرب إلى تصحيح هفوات الماضي، للتركيز على ما يَهمّ أميركا على المدى البعيد، مِن مِثل تعزيز حضورها في أيّ بقعة تطالها أقدام جنودها في انتظار مواجهةٍ تبدو حتمية مع منافِستها: الصين
في اليوم التالي لإعلان الرئيس الأميركي، جو بايدن، رسمياً، قرار انسحاب الولايات المتحدة وحلفائها من أفغانستان قبل نهاية العام الجاري، سعى وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، إلى تطمين حكومة كابول الغارقة في دوّامة «الفزع»، لخشيتها من أن يؤدّي الفراغ الذي سيُخلِّفه غياب قوات «التحالف الدولي»، إلى إضعاف نقاط نفوذها المتداعية أصلاً، لمصلحة حركة «طالبان»، الرافضة، من جهتها، مواصَلة المشاركة في محادثات السلام، بسبب «تَعذُّر» التزام الإدارة الجديدة في واشنطن بنودَ الاتفاق الموقَّع بين الحركة وإدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، وخصوصاً لجهة تأجيل موعد الانسحاب الذي كان مقرَّراً بداية أيار/ مايو المقبل. لكن ثمّة مؤشرات متعدّدة، عبّرت عنها أكثر من جهة، إلى انسحابٍ يعيد نشر القوات الأميركية في الجوار الأفغاني، وتحديداً في آسيا دول آسيا الوسطى، بهدف «رصد» أيّ صعود جديد لتنظيم «القاعدة» يومَ تحكِم «طالبان» سيطرتها على البلاد.
وكانت وثيقة «الدليل الاستراتيجي الموقّت للأمن القومي» (نشرها البيت الأبيض في بداية آذار/ مارس الماضي) قد دعت إلى انسحاب الولايات المتحدة من «حروب أبدية كلَّفت آلاف الأرواح وأهدرت تريليونات الدولارات»، مشيرةً صراحة إلى العمل على «إنهاء أطول حرب تشنُّها أميركا في أفغانستان على نحو مسؤول، مع ضمان ألّا يصبح هذا البلد مرّة أخرى ملاذاً آمناً للهجمات الإرهابية ضدّ الولايات المتحدة». في هذا السياق تحديداً، يجيء اقتراح «البنتاغون»، المنسَّق مع وكالات الاستخبارات الأميركية وحلفاء الولايات المتحدة الغربيّين، نشرَ قوّة عسكرية في دول جوار أفغانستان، وتحديداً في طاجيكستان وكازاخستان وأوزبكستان الواقعة في آسيا الوسطى. إذ يستهدف الاقتراح، وفق ما أوردته صحيفة «نيويورك تايمز»، نقلاً عن مصادر أميركية، منعَ أفغانستان من أن تصبح «قاعدة إرهابية» من جديد، وسدَّ الفجوة التي سيخلّفها الانسحاب من هذا البلد. ويعزو هؤلاء المسؤولون الخطّة إلى الدروس المستقاة من الانسحاب الأميركي من العراق في عام 2011، والذي سمح بظهور تنظيم «داعش» بعد ثلاث سنوات. لذا، يُطوّر المخطّطون في القيادة المركزية للجيش الأميركي في تامبا/ فلوريدا، والأركان المشتركة في واشنطن، خيارات لتعويض الغياب. ويجلِّي خطاب بايدن بوضوح التوجُّه المذكور، بتأكيده «(أننا) لن نرفع أعيننا عن التهديد الإرهابي»، بل «سنعيد تنظيم قدراتنا في المنطقة لمكافحة الإرهاب، ولمنع عودة ظهور التهديد الإرهابي الذي يستهدف وطننا».
اقترح «البنتاغون» نشر قوّة في طاجيكستان وكازاخستان وأوزبكستان


وتأتي هذه الخطط، كما تقول الصحيفة، استجابةً لتحذيرات صادرة عن مسؤولين سابقين ومشرّعين من كلا الحزبين الديموقراطي والجمهوري، من أن غياب الضغط المستمرّ من جانب قوات العمليات الخاصة الأميركية، وعملاء الاستخبارات، يمكن أن يعيد تنظيم «القاعدة» إلى أفغانستان يومَ تُحكم «طالبان» سيطرتها على البلاد. بهذا المعنى، يصبح الانسحاب شكلياً أكثر منه عملياً، إن صحَّت التقديرات الآنفة، إذ سيعمل بايدن على تحقيق مطلب الانسحاب استجابةً لوعوده السابقة، وهو الذي أقرّ بأن أهداف الولايات المتحدة في أفغانستان أصبحت «غامضة على نحو متزايد»، في موازاة سعيه إلى استرضاء مَن يرفضون الرحيل، وعلى رأسهم «البنتاغون»، بإعادة الانتشار في الجوار الأفغاني، ودائماً بحجّة «مكافحة الإرهاب». ذلك ما أوضحته الناطقة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، يوم أمس، حين قالت إن في إمكان الولايات المتحدة مراقبة أيّ صعود جديد لتنظيم «القاعدة» في أفغانستان، من دون الاحتفاظ بوجود عسكري دائم هناك. لكن جوزف ماغواير، القائد الأعلى السابق لقوات البحرية الخاصة والذي عمل مديراً بالإنابة للاستخبارات الوطنية في إدارة دونالد ترامب، رأى أن «لا بديل من الوجود على الأرض... فعاليتنا في حماية وطننا ستتضاءل بشكل كبير».
استناداً إلى ما سبق، يمكن التوقّف طويلاً عند ما يعنيه قرار بايدن سحبَ 2500 فرد عسكري من أفغانستان، يضاف إليهم 1000 جندي غير مصرّح عنهم رسمياً يعملون مباشرةً تحت إشراف «البنتاغون» ووكالة الاستخبارات المركزية، وفق ما تؤكِّد مصادر «نيويورك تايمز». وتلك خدعة استخدمتها إدارة باراك أوباما تحت عنوان «مستويات إدارة القوات»، ما أدّى إلى زيادة عديد القوات في مناطق الحرب على نحو كبير. لكن مسؤولي وزارة الدفاع أكّدوا أنهم لن يلجأوا إلى تلك الأساليب في أفغانستان بعد الموعد النهائي للرحيل، على رغم تشكيك بعض المراقبين في هذه الوعود. وتتمثّل القضية الرئيسية، بالنسبة إلى «البنتاغون» ووكالات الاستخبارات الأميركية، في مدى نجاعة تنفيذ عمليات «مكافحة الإرهاب» من خارج أفغانستان، ولا سيما أن السوابق تجلِّي فشلاً ذريعاً، و»حرب الدرونز» لا تزال ماثلة. لكن المفارقة أن وزير الدفاع، لويد أوستن، استشهد، خلال اجتماع دول «حلف شمالي الأطلسي» في بروكسل، أوّل من أمس، بقدرة الجيش الأميركي على ضرب «أهداف إرهابية» في المناطق الساخنة البعيدة «في أفريقيا وأماكن أخرى»، حيث يوجد القليل من القوات، إن وجدت، في إشارة على ما يبدو إلى ضربات الطائرات من دون طيار في الصومال واليمن وليبيا في السنوات الأخيرة. وقال أوستن: «ربّما لا توجد مساحة على الكرة الأرضية لا تستطيع الولايات المتحدة وحلفاؤها الوصول إليها».
في غضون ذلك، وصل وزير الخارجية الأميركي إلى العاصمة الأفغانية، كابول، حيث جدَّد وعود بايدن بالحفاظ على «شراكة دائمة» مع هذا البلد بعد انسحاب القوات الدولية. وقال بلينكن، في ختام لقائه مع الرئيس الأفغاني، أشرف غني: «أريد أن أثبّت عبر زيارتي الالتزام المستمرّ للولايات المتحدة حيال جمهورية أفغانستان الإسلامية وشعبها... الشراكة تتغيّر لكن الشراكة دائمة»، فيما أشاد غني بـ»التضحيات» التي قدّمتها الولايات المتحدة في أفغانستان، مؤكداً أن بلاده تحترم القرار الأميركي، مع تشديده على «ضرورة التعاون بين الدولتَين من أجل محاربة الإرهاب». من جهتها، رحّبت حركة «طالبان»، في بيان، بقرار واشنطن سحب جميع قواتها بحلول أيلول/ سبتمبر، معتبرة ذلك، في الوقت نفسه، «خرقاً لاتفاق الدوحة». وقال الناطق باسمها، ذبيح الله مجاهد، إن قرار سحب القوات الأميركية «يعني أن واشنطن لم تسمع للجهات التي لها مصلحة في استمرار الحرب، وهو قرار جيّد، غير أن مسؤولية النتائج العكسية للتأخُّر ستكون على عاتق الجهة التي خَرقت الاتفاق».



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا