ولّد التقدُّم الضئيل في ملفّ دونباس خيبة أمل في المجتمع الأوكراني، تفاقمت على خلفية الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد (ما اضطرَّ زيلينسكي إلى رفع معدّلات الفائدة لتلبية شروط «صندوق النقد الدولي»)، معطوفةً عليها الأزمة الصحّية، وفَشَل سلطات كييف في تأمين ما يكفي من اللقاحات المضادّة لفيروس «كورونا» لبدء تلقيح السكان، وهو ما مثّل ضربةً قاضية لشعبية زيلينسكي (في بداية العام الجاري، تمكَّن الرئيس الأوكراني من التقدُّم، بفارق ضئيل، على خصومه البارزين في استطلاعات الرأي، بينما تراجَع حزبه، «خادم الشعب»، إلى المركز الثاني). صحيح أن نحو ثلاث سنوات تَفصِل زيلينسكي عن الانتخابات الرئاسية، لكن هذا لا يعني سوى القليل في عالم السياسة الأوكرانية المتغيّر، حيث تشتهر الطبقة السياسية، وفق ساموروكوف، بسمعتها السيئة وبانتهازيتها، واستعدادها لتغيير ولاءاتها بمجرَّد تعثُّر قبضة الزعيم على السلطة (أثار تراجع شعبية زيلينسكي على الفور الحديث عن انتخابات مبكرة).
ليس من شكٍّ في أن موسكو توقَّعت تحوُّل زيلينسكي من «صنع السلام» إلى المواجهة
ومع ترْك الوباء وشروط «صندوق النقد الدولي» له مساحةً صغيرة للمناورة على الجبهة الاقتصادية، اختار زيلينسكي تعزيز شرعيته من طريق حشد الدعم الغربي؛ فأقدم، في شباط/ فبراير الماضي، على إغلاق العديد من وسائل الإعلام الموالية لروسيا، وفرْض عقوبات على النائب فيكتور ميدفيدشوك الذي يُعتقد أنه صديق شخصي لبوتين، وذلك لهدفين اثنين: أوّلهما استرضاء المعارضة القومية في الداخل، وثانيهما السعي إلى الحصول على دور في احتواء روسيا، في الخارج. وهاتان خطوتان سرعان ما أتبعهما بخطوات أخرى؛ إذ نأى بنفسه عن الأوليغارشية الأوكرانية من خلال اعتقالات رفيعة المستوى، مؤكداً تصميمه على تنفيذ «إصلاحات» تُقرّبه أكثر من الغرب، وأعلن إنشاء «منصّة القرم» التي من المفترض أن تحافظ على الاهتمام الدولي بمصير شبه الجزيرة، كما عرض الاستراتيجية الأمنية الجديدة للبلاد، والتي تشدّد على تطلُّع أوكرانيا إلى الانضمام لـ»حلف شمال الأطلسي»، وتركِّز بشكل رئيس على مواجهة «العدوان الروسي»، وهو ما أبرزه بيان البرلمان الأوكراني، الصادر في أعقاب مقتل أربعة عسكريين أوكرانيين في دونباس، والذي اعتبر روسيا «عدوّاً عسكرياً»، وطالب بإيقاف أعمالها العدوانية، عبر مناشَدة المجتمع الدولي الضغط عليها.
هذا الوابل من الأوامر والمراسيم أسفر عن نتائج متباينة؛ فبينما عزّز زيلينسكي أوراق اعتماده الوطنية في الداخل، إلا أنه لا يزال يُعتبر «تصالحياً» من جانب نسبة معتبَرة من القوميّين الأوكرانيين الذين ينظّمون احتجاجات شرسة في الشوارع ضدّه. وفي الخارج، أعادت الراديكالية المعادية لروسيا انتباه الغرب إلى أوكرانيا، ليُبلغ الرئيس الأميركي نظيره الأوكراني، في أوّل اتصال بينهما في الثاني من الشهر الحالي، «دعمَ الولايات المتحدة الثابت لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، في مواجهة العدوان الروسي في دونباس وشبه جزيرة القرم»، فيما سبقه وزير دفاعه، لويد أوستن، إلى تقديم «ضمانات أميركية» لدعم كييف حالَ نشوب صراع عسكري مع موسكو. دعم معلَن عزّز ثقة أوكرانيا التي واصلت الإدلاء بتصريحات تستفزّ روسيا؛ فأعلن زيلينسكي، في اتصال مع الأمين العام لـ»الناتو»، ينس ستولتنبرغ، أن الحلف يمثِّل «السبيل الوحيد لإنهاء الحرب في منطقة دونباس»، داعياً الدول الأعضاء في الـ»الأطلسي» إلى زيادة وجودها العسكري في البحر الأسود، ومنْح بلاده خطّة عمل لعضويّتها في الحلف.
ليس من شكٍّ في أن موسكو توقَّعت تحوُّل زيلينسكي من «صنع السلام» إلى المواجهة. فبحلول نهاية العام الماضي، لم يعد هناك أمل كبير لدى روسيا في أن يتمكَّن الرئيس الأوكراني «المنشقّ» من تنفيذ «اتفاقات مينسك»، خصوصاً أنها توقّعت أن يؤدّي وصول بايدن إلى البيت الأبيض بأجندة «احتواء روسيا»، إلى موقف أكثر حزماً من قِبَل كييف. ووفقاً لذلك، كانت موسكو مستعدة جيّداً لرفع الرهان العسكري، ردّاً على محاولات زيلينسكي تعزيز مكانته المحلية والدولية من خلال لعِب الورقة المعادية لروسيا. ومع حشد هذه الأخيرة قوّاتها على الحدود الشرقية لأوكرانيا وفي شبه جزيرة القرم، فإن فرص كييف للتنازل تبدو ضئيلة في ما لو تدهورت المواجهة القائمة حالياً، إلى مواجهة عسكرية.
ومع هذا، هناك أسباب للاعتقاد بأن أيّاً من الطرفين لا ينوي شنَّ حرب. من وجهة نظر أوكرانيا، يُرجَّح أن يعطي الهجوم في دونباس لروسيا ذريعة للتدخُّل في المنطقة، بعدما أكد المسؤولون الروس مراراً استعداد بلادهم لحماية الجمهوريتَين الانفصاليتَين (دونيتسك ولوغانسك). والخسائر التي ستتلو ذلك، ستُدمِّر الدعم المحدود لزيلينسكي، في حين أن الأخير لا يستطيع ضمان المساعدة الغربية. وبالتالي، فإن الغرض من التحشيد العسكري يقتصر على إظهار روسيا، لكلٍّ من أوكرانيا والولايات المتحدة، أنها مستعدّة للردّ على أيّ محاولات لتغيير الوضع الراهن في دونباس. إلا أن غياب الدوافع العقلانية للحرب لن يمنع الأزمة من الخروج - عَرَضاً - عن نطاق السيطرة.
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا