خسرت إسرائيل الحرب البحرية التي بدأتها في مواجهة إيران. وهي نتيجةٌ كانت متوقَّعة حتى قبل أن تُقرّ بها الأولى بالموارَبة؛ إذ لا تَوازن بين الجانبَين على الساحة البحرية. أمّا السؤال الذي يُقلق تل أبيب، فيتعلّق باليوم الذي يلي: هل تتحوَّل البحار لتكون خياراً إيرانياً لتفعيل ردود طهران ربطاً بجبهات وساحات أخرى، غير بحرية؟تدرس تل أبيب جيّداً فاعلية أيّ اعتداء تقوم به ضدّ أعدائها، وفقاً لمعادلة الكلفة والجدوى، من دون التقيُّد بتأثير قصير المدى فحسب. فالمخاطرة تكون محسوبة جيّداً بناءً على تقديرات استخبارية مبنيّة ــــ بدورها ــــ على ما تراه هي من قدرات ونيّات لدى الطرف الآخر. وفي حال كان الإذن الأميركي متوفّراً، أو قَدّرت تل أبيب، إلى حدٍّ يقارب اليقين، أن الاعتداء لا يؤثّر في المصالح الأميركية، فهي تُقدِم عليه. وفقاً لهذه المحدّدات، تأتي القرارات بالمبادرة من عدمها، مع اختلاف في تأثير كلّ عامل من العوامل المذكورة، قياساً بغيره. لكن المؤكَّد أن إسرائيل لن تضرّ بالمصالح الأميركية، ولن تُقدِم على تفعيل اعتداءاتها إن وجدت أن مستوى ردّة فعل الطرف الآخر مرتفع جدّاً قياساً بفائدة الاعتداء نفسه. وعلى ذلك، يمكن القياس.
لكن ماذا عن التقديرات الخاطئة؟ وماذا عن الاعتداء الذي لَحِق مقدّماته خلل؟ قد تكون التبعات سيّئة جداً لإسرائيل، ومن شأن سُوئها أن يتمدّد من دون أن يقتصر على محلّ الفعل العدائي، الذي سيتحوّل، والحال هذه، من فرصة رأت تل أبيب إمكان استخدامها لتحقيق مصالحها، إلى تهديد بات بدوره فرصة لدى أعدائها. الحرب البحرية التي بدأتها إسرائيل في مواجهة إيران هي مصداق لما ورد؛ إذ باتت هذه الحرب فرصة لإيران بعدما تبدَّى لإسرائيل أنها فرصة لها هي. خطأ تل أبيب الاستخباري يتركّز في فشلها في تقدير نيّات طهران، وإرادة صاحب القرار فيها للردّ على اعتداءات تل أبيب البحرية، إذ يُستبعد أن تكون تقديرات إسرائيل قد أخطأت في ما يتعلّق بوجود القدرات المادية لدى الجمهورية الإسلامية على الردّ والإيذاء.
لكن إنهاء المواجهة البحرية بين الجانبين ليس نتيجة لقرار يَصدُر عن أحد طرفَي المواجهة، بل يجب أن يكون صادراً عن الطرفَين، وهنا مكمَن التهديد الذي تسعى إسرائيل إلى الحؤول دونه. وإذا كان القرار الإسرائيلي هو التراجُع، فلا شيء يضمن تراجُع إيران، ليس في ما يتعلّق بالمواجهة نفسها فقط، بل في كونها باتت محلّاً لردود طهران، ضمن الخيارات الموجودة على طاولة القرار في الجمهورية الإسلامية، للردّ على اعتداءات إسرائيل في ساحات مواجهة أخرى غير بحرية. ما يقلق تل أبيب أن وجود الخيار البحري لدى طهران، ربطاً بساحات أخرى، سيكون حاضراً لدى الأولى في حال درست إمكان اللجوء إلى اعتداءات غير بحرية، اعتادت أن يكون الردّ عليها غير تناظُري؛ بمعنى أن خسارة إسرائيل في الحرب البحرية ضدّ إيران لا تقتصر على هذه الحرب ذاتها، بل من شأنها الإضرار في القدرة الإسرائيلية، بما يتجاوز الماء إلى خلافه. تقدير تلك الخسارة الإسرائيلية وما يتّصل بها، وتحديداً في ما يتعلّق بالحرب الأوسع بين الجانبَين، يجد ما يؤكّده في تسريبات ومنشورات إسرائيلية، تُظهر تَعذُّر الإقرار بالتراجع لدى الإسرائيليين. بالطبع، جزء من هذه المنشورات يتحدّث مباشرةً إلى الجانب الإيراني لإيصال رسالة تهدئة على الساحة البحرية، وكذلك تبرير التراجُع الحالي عن المواجهة، وإن بالموارَبة أمام الجمهور الإسرائيلي. وعليه، تكون رسالة إسرائيل مختلطة بين الإقرار بالتراجُع غير المباشر، وإنكاره، وسَوْق مستوى مرتفع جداً من التبريرات، مع إدخال عوامل أخرى ضاغطة على تل أبيب تحاول من خلالها الأخيرة أن تقول إنه إن حصَل التراجُع النهائي فهو نتيجة الضغوط غير الإيرانية.
إنهاء المواجهة البحرية ليس نتيجةً لقرار يصدر عن أحد طرفَيها


من ناحية إسرائيل، لا داعي ولا ضرورة لأن تُعلِن صراحة أنها معنيّة بوقْف المواجهة البحرية، بل إن إعلاناً من هذا النوع ينطوي على مخاطرة. الهدف لديها هو أن تُظهِر توجُّهها للامتناع على أنه نتيجة سلسلة ضغوط غير إيرانية، في الوقت الذي تعمل فيه على إفهام إيران بأنها لا تخشى استمرار المواجهة. ووفق ما يَرِد في الإعلام العبري (صحيفة «هآرتس»)، فإن المجتمع الدولي يمارس ضغوطاً على إسرائيل لوقف هجماتها البحرية، وفي المقدّمة الجانب الأميركي الذي يخشى تداعيات الهجمات على توجّهاته في مقابل إيران، وإمكان التوصُّل إلى تسوية ما في الملف النووي، بينما تشتكي شركات التأمين البحري على مسامع المسؤولين في تل أبيب ــــ وتحديداً بعد الهجمات الإيرانية على سفينتَي شحن إسرائيليتين ــــ من أن التأمينات على النقل البحري سترتفع إلى حدّ التسبُّب بأزمة في النقل الدولي عبر البحار، مع الإشارة إلى أن 90% من واردات إسرائيل تأتي عبر البحار.
كتابات عبرية، في السياق نفسه، تُسند فعل الاعتداء الإسرائيلي، وكذلك الامتناع الحالي، إلى خلافات بين المسؤولين الإسرائيليين، وتحديداً بين الجيش الإسرائيلي و»الموساد»؛ إذ إن رئيس أركان الجيش، أفيف كوخافي، يقف ضدّ المنازلة البحرية مع إيران، ويخشى تداعياتها اللاحقة في حال اتّساع المعركة، بينما يستسهل رئيس «الموساد»، يوسي كوهين، توجيه ضربات بحرية لإيران ويدعو إلى استمرارها. وهذا التظهير الإعلامي، الذي يبدو مُوجّهاً، هو فعلياً تمهيد للتراجُع إن تقرَّر نهائياً، أو إن تقرَّر توجيه ضربة بحرية ما لحثّ الإيرانيين على القبول بقاعدة اشتباك جديدة بين الجانبين، تُحيّد الساحة البحرية عن الارتباط بساحات أخرى.
مشكلة إسرائيل أنها تواجه صلابة إيرانية في رفض إرساء قواعد اشتباك جديدة تحدّ من هامش المناورة لدى طهران، والذي يتيح لها مساندة موقفها وتموضعها في ساحات أخرى، بينما تبدو إسرائيل معنيّة بتحييد ذلك الهامش. والمشكلة الأخرى المرتبطة بالأولى، هي أن أدوات «إقناع» الإيرانيين بتحييد الساحة البحرية غير موجودة لدى إسرائيل. وهي إن قرَّرت الضغط على طهران، فالمتوفّر لديها هو الخيار العسكري الذي من شأنه دفع إيران إلى الردّ، مع تعزُّز تمسُّكها أكثر بالساحة البحرية، بوصفها محلّاً للمنازلة وجزءاً لا يتجزّأ من المواجهة الأوسع. وهنا، مكمن التهديد لإسرائيل.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا