لندن | كانت أصابع الولايات المتّحدة واضحة على قرار الاتحاد الأوروبي فرْضَ عقوبات على عدد من المسؤولين الرسميين في إقليم شينجيانغ الذي تقطنه أقلّية الإيغور، وتحاول واشنطن إثارة الاضطرابات فيه، ودَفْع سكّانه إلى الانفصال عن الحكومة المركزية في بكين. إذ تزامَن الإعلان عن تلك العقوبات مع وصول وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى بروكسل للتشاوُر مع الحلفاء في أعقاب قمّة فاترة جمعته إلى نظيره الصيني في ألاسكا. سريعاً، أصدرت كلّ من لندن وأوتاوا قرارات مماثلة، في ما يبدو أنه نتاج جهد معَدّ مسبقاً في إطار سياسة حرب باردة جديدة، قرّرت إدارة الرئيس جو بايدن أنها قد تكون آخر حيلها في محاولتها كبح صعود العملاق الآسيوي. وتتجسّد هذه السياسة هجوماً متعدّد الأوجه، يشمل تصعيداً عسكرياً واستخبارياً واقتصادياً وشحناً أيديولوجياً، بغاية تحييد ما صنّفته النخبة الحاكمة في واشنطن التحدّي الأخطر لهيمنة الولايات المتّحدة. وكان بلينكن قد حدّد توجُّه إدارة بايدن في أوّل خطاب رئيسي له في 3 آذار/ مارس الماضي، عندما وصف صعود الصين بأنه «أكبر اختبار جيوسياسي» يواجه الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين. وبحسب مرجعيّات اقتصادية متقاطعة، فإن الصين، وفق المعطيات الحالية، ستحلّ مكان الولايات المتحدة خلال سنوات قليلة على أبعد تقدير، كأكبر اقتصاد في العالم. وهو أمر لا تُخفي الإدارة الأميركية الجديدة عزمها على منعه. ونُقل عن بايدن قوله، يوم الخميس الماضي، «إن الصين لديها غاية كلّية، وأنا لا ألومهم على غايتهم تلك بأن يتبوّأوا مكانة الدولة الرائدة في العالم. لكن هذا بالتأكيد لن يحدث في عهدي».ولم تتأخر بكيّن عن الردّ بالمِثل. إذ فرضت، بدورها، عقوبات على مسؤولين غربيين حمّلتهم مسؤولية نشر «الأكاذيب والتضليل» عن البلاد. وتتّهم الولايات المتّحدة وحلفاؤها الأطلسيون، المسؤولين الصينيين المستهدَفين بالعقوبات، بالتورُّط في انتهاكات لحقوق الإنسان في مقاطعة شينجيانغ التي تتمتّع بحكم ذاتي، عبر احتجاز أعداد كبيرة من مواطنيها من قومية الإيغور في معسكرات اعتقال ضخمة، واللجوء إلى تعقيم النساء الإيغوريات واستغلالهنّ من خلال العمل القسري في صناعة القطن. وتصف بكين تلك الادّعاءات بـ»لا شيء سوى الأكاذيب والمعلومات المضلّلة»، وتقول إنها تُنفّذ برامج لـ»توعية» الشباب الإيغوري بهدف منع تورُّطه في الأنشطة الإرهابية، علماً بأنه لم يَعُد خافياً حجم جهود تجنيد الإيغور، التي دعمها الغرب عبر أندونيسيا وتركيا، للقتال في سوريا. ويحاول هؤلاء، بعد عودتهم، تنفيذ عمليات إرهابية داخل الصين، غالباً ما يقع ضحاياها مواطنون عاديون، بِمَن فيهم مسلمون. وكان جمعة طير، إمام أقدم مسجد في الصين، قد قُتل في اعتداء نفّذه جهاديون إيغوريون. وفي معرض ردّه على الادّعاءات الغربية، أشار متحدّث باسم الحكومة الصينية، هذا الأسبوع، إلى التزايُد المستمرّ في عدد السكّان الإيغور، وارتفاع متوسّط العمر المتوقَّع بينهم بشكل متتابع، والتراجُع الملحوظ لنسب الفقر في مناطقهم، التي تتمتّع بوضع قانوني خاص يَمنح حقوقاً أكبر في التمثيل السياسي والتعليم باللغات المحلّية، ممّا هو قائم في المقاطعات الأخرى.
لا تبدو الصين، إلى الآن، في وارد تمرير الإشارات العدائية الغربية


وفي لندن، عُرف من بين الممنوعين من زيارة الصين أو إقامة صفقات مالية مع مواطنين أو شركات صينية، إيان دنكان سميث، وزير العمل والمعاشات السابق، وتوم توجندات، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم، وكلاهما من عتاة يمين حزب المحافظين الحاكم. ووصَف توجندات العقوبات بأنها «اعتداء على السيادة البريطانية» ــــ على رغم أنها جاءت ردّاً على مبادرة بريطانية لفرض العقوبات ــــ، فيما قال سميث ــــ الذي قد يواجه مساءلة قانونية في شأن سياساته ضدّ البريطانيين الفقراء أثناء تولّيه الوزارة ــــ إنه سيرتدي «الغضب الصيني» باعتباره «وسام شرف» شخصياً له، متبجّحاً أمام الصحافيين كما لو كان بطلاً لحقوق الإنسان. وسارع رئيس الوزراء، بوريس جونسون، من ناحيته، إلى تقديم دعم كامل للرجلَين. ويقود جونسون حكومة يمين محافظ تتمتّع بأغلبية مريحة في مجلسَي البرلمان، وتريد لعب دور مخلب قطّ للسياسة الأميركية تجاه الصين، وهي أعدّت لذلك برنامج حرب متكاملاً (راجع: توسيع الانتشار وزيادة الرؤوس النووية: بريطانيا تتقدَّم الجبهة الأميركية ضدّ الصين/ عدد السبت 27 آذار 2021).
ولا تبدو الصين، إلى الآن، في وارد تمرير الإشارات العدائية الغربية، وهي تعمل وفق مخطّط استراتيجي محكم يتضمّن بناء علاقات تشبيك اقتصادي وثيقة مع العديد من دول الجنوب من دون المرور بالمركز الرأسمالي في دول الشمال، استعداداً على ما يبدو لانكماش في المتاجرة مع الولايات المتّحدة، شريكها الأساسي الحالي. وتسمح علاقات التشبيك التي تبنيها الصين مع دول مِن مِثل روسيا وإيران بتحييد دور الدولار الأميركي كعملة للتبادُل العالمي، في ما من شأنه ضرْب أحد أعمدة الهيمنة الأميركية على العالم. وإلى جانب الردّ الدبلوماسي للحكومة الصينية على استهدافها بالعقوبات، كان لافتاً، هذه المرّة، حجم الردّ الشعبي الغاضب، والذي انعكس في أوسع دعوة إلى مقاطعة المنتَجات الاستهلاكية الغربية. دعوةٌ تسابقت مواقع التجارة الإلكترونية، على إثرها، إلى إزالة الماركات الأميركية من رفوفها الافتراضية، فيما اضطرّ نجوم ومشاهير صينيون إلى الانسحاب من عقود ترويج مجزية مع شركات دعمت الاتهامات بحق الصين مِن مِثل «إتش أند إم» و»نايكي». كذلك، أعيد نشر التعليقات المعادية للغرب ومصالحه بلايين المرّات على مواقع التواصُل الاجتماعي الصينية، في ما يراه المراقبون بادرة لكابوس علاقات عامّة لمصالح رأس المال الأميركي. ولا شكّ في أن حلفاء الولايات المتّحدة الأوروبيين سيتكبّدون، بدورهم، خسائر فادحة في حال تفاقُم العداء مع الصين، وسيُضيّعون على شعوبهم فرصاً هائلة في التبادُل الاقتصادي والعلمي والثقافي.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا