أصبح الذكاء الاصطناعي، اليوم، عامل قوة يسهم في تغيير توازنات النظام الدولي، في سياق يتّسم بتقدُّم الشرق على غيره في ميدان تطوير هذه التكنولوجيا. والخشية من تفوُّق الأخير على الأميركيين، في هذا المجال، هي التي تُفسّر مواقفهم الهجومية الحادّة تجاه الصين، التي تُراكم الإنجازات العلمية والتكنولوجية بوتيرة متسارعة. وفقاً لجوليان نوسيتي، الباحث في «المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية»، فإن «الذكاء الاصطناعي يحتلّ أهمية حيوية على المستويات العسكرية والاستراتيجية، لأن وظيفته هي تسهيل عملية صناعة القرار عبر التدفُّق الفوري للمعلومات التي تعالجها الخوارزميات الملائمة». وتتزايد أهمية الذكاء الاصطناعي في المنافسة على الريادة بين الصين والولايات المتحدة، عبر السيطرة على التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوَج، المدني والعسكري.«ما زالت الصين هاجساً في الولايات المتحدة حتى بعد رحيل ترامب. هي من جهتها تعتمد خطاباً حاسماً يعلن نِيّتها التفوُّق على الأميركيين في ما كان يُعتبر ميدانهم الحصري»، بحسب الباحث الفرنسي. كشفت بكين عن عدّة مشاريع لتطوير تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية وتلك النانوية، وأخيراً الذكاء الاصطناعي. يشير شارل تيبو، الباحث في «مركز العلاقات الدولية والاستراتيجية»، والمتخصّص في التكنولوجيا الجديدة، ومنها الذكاء الاصطناعي، من جهته، إلى أن الإنفاق على البحث والتطوير في الصين تضاعَف 12 مرّة بين 2000 و2018، وأن الصين في 2019 أضحت البلد الأول الذي يقدّم طلبات لبراءات اختراع لـ»المنظّمة العالمية للمُلكية الفكرية». وقد زادت طلبات براءات الاختراع الصينية في ميادين تكنولوجيا المعلومات والاتصال بـ13 ضعفاً بين 2005 و2017، بينما تلك الأميركية شهدت تراجُعاً طفيفاً منذ 2013. «هواوي هي حالياً الشركة الأولى في العالم التي تتقدَّم بطلبات للبراءات في شتّى المجالات. هذا لا يسمح طبعاً بمعرفة مدى أهمّية الاختراعات التي تمّت، لكنه يشي بإرادة حازمة في التقدُّم»، برأي تيبو.
احتمالات اعتماد إجراءات أكثر تشدُّداً لوقف التقدُّم التكنولوجي للصين أضحت أكبر


التفوُّق النوعي الأميركي الذي ساد الميدان التكنولوجي منذ 1945 يتعرّض لمنافسة جدّية، خاصة في ميادين حسّاسة كالذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الجيل الخامس. يُحفّز هذا الأمر المسؤولين الأميركيين على العمل على بلورة استراتيجية فدرالية منسجمة. «أيّام دونالد ترامب، برزت مؤشرات إلى غياب الرؤية الاستراتيجية المتماسكة في هذا المضمار. اتُّخذ قرار بتخفيض التمويل الفدرالي، وشهدنا توتُّرات فعلية في داخل مؤسّسات الدولة الأميركية. تَغيَّر هذا الوضع أخيراً. اجتمعت لجنة الذكاء الاصطناعي، التي تضمّ مسؤولين رسميين وكبار رجال الأعمال، عدّة مرات في المرحلة الانتقالية بين ترامب وبايدن، وأصدرت توصياتها منذ بضعة أسابيع. ركّزت هذه الأخيرة على ضرورة إدخال زيادة نوعية على الميزانية، قدَّرها البعض بـ40 مليار دولار من الاستثمارات، للحفاظ على الريادة الأميركية في مجال التكنولوجيات الحسّاسة. جرى التركيز، أيضاً، على أشباه الموصلات، خاصة الرقائق الإلكترونية، التي باتت متطوّرة ومنمنمة وتتضمّن مكوّنات تعمل بالذكاء الاصطناعي».
في نظر شارل تيبو، فإن واشنطن، على الرغم من تصريحات لجنة الذكاء الاصطناعي، تُواجه عقبات موضوعية، مرتبطة بطبيعة اقتصادها النيوليبرالي، تعترض مساعيها للتفوُّق التكنولوجي. فالبنية الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية التي أتاحت للولايات المتحدة احتلال المرتبة الأولى على المستوى التكنولوجي، استندت إلى نمط من الاقتصاد المُوجَّه إلى حدٍّ ما. ولكن، مع التخلّي عن هذا النموذج، والسماح للشركات بتطوير التكنولوجيا والاستفادة منها من دون مشاركة الدولة بالضرورة في ذلك، وَجد صنّاع القرار أنفسهم أمام إشكالية معقّدة. «في الظروف الحالية، تستطيع الشركات الكبرى، كغوغل وآبل وفيسبوك و أمازون ومايكروسوفت، اتّباع توجُّهات تتناقض مع المصالح المباشرة للحكومة الأميركية في ما يخصّ تطوير هذه التكنولوجيا. لدينا أمثلة واضحة على ذلك، كتعاون مايكروسوفت مع جامعة قريبة من الجيش الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي، وحول قضايا متّصلة بالمراقبة والرقابة. شركة غوغل اتُّهمت أيضاً من قِبَل باتريك شاشناهان، وزير الدفاع السابق، ورئيس أركان الجيش، بالعمل لحساب الجيش الصيني. وكانت هذه الشركة العملاقة قد أعلنت افتتاح مركز للتدريب والأبحاث في ميدان الذكاء الاصطناعي في بكين. لا شكّ في أن الدولة الصينية قادرة على التحكُّم في نظامها الإنتاجي والعلمي، وبتوجيهه وقيادته، أكثر مما تستطيع الولايات المتحدة فعل ذلك»، باعتقاد الباحث.
لكن جوليان نوسيتي يحذّر من تبنّي الإعلانات الصينية من دون تبيُّن مدى دقتها. فسلطات هذا البلد سارعت في أكثر من مرّة إلى الإعلان عن استثمارات هائلة ومشاريع ضخمة لم تُفض بالضرورة، وبعد سنوات عديدة، إلى ريادة الصين في قطاع صناعي محدّد. غير أن فرضية التهديد الصيني أصبحت محطّ إجماع بين الحزبَين الرئيسين في الولايات المتحدة، ما يعني أن احتمالات اعتماد إجراءات أكثر تشدُّداً لوقف التقدُّم التكنولوجي للصين أضحت أكبر. وهي إجراءات ستقود، في حال اتخاذها، إلى مستوى أعلى من التوتُّر بين العملاقَين، من ذلك الذي يعيشه العالم راهناً.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا