يتناوب حزبا "العدالة والتنمية" و"الحركة القومية" على توزيع الأدوار في ما بينهما، بهدف شقّ صفوف المعارضة. ومع بدء استهداف الحركة الكردية، و"حزب الشعوب الديموقراطي" على وجه الخصوص، تكون مغامرة اجتياح الحالة الكردية قد لامست حدّ الخطوط الحمر التي ستنقلب من جرّائها الأدوار والمهام. وتُبيّن استطلاعات الرأي أن "تحالف الجمهور" بين حزبَي "العدالة والتنمية" برئاسة رجب طيب إردوغان، و"الحركة القومية" برئاسة دولت باهتشلي، لا يزال يتخلّف عن "تحالف الأمة" المدعوم من "الشعوب الديموقراطي". وتلك نتيجةٌ تستدعي إرباك الحركة الكردية من أجل إضعاف جبهة المعارضة، التي يُحتمل أن تزداد وهناً في ما لو أيّد "الحزب الجيّد" القومي المعارِض إجراءات حظر الحزب الكردي، حيث سيكون حينها بإمكان الثنائي إردوغان- باهتشلي ضمان بقائهما في السلطة بعد عام 2023. لذلك، جاء إعلان باهتشلي، أخيراً، ضرورة "إغلاق حزب الشعوب الديموقراطي باعتباره مسألة عاجلة وملحّة ومصيرية"، وشرطاً لاستمرار التحالف مع إردوغان.في ضوء ما سبق، مثَّل يوم الأربعاء الماضي علامة فارقة على بدء مرحلة جديدة من محاولة هندسة الحياة السياسية في تركيا، وإدخالها، ولو بعد فترة، في طور تغييب العنصر الكردي عن المشهد السياسي. لهذه الغاية، أقيمت دعوى لحلّ "الشعوب الديموقراطي"، في موازاة إسقاط حصانة النائب الكردي عن دائرة كوجاعلي، عمر فاروق غيرغيرلي أوغلو. لم تغمض عَينُ "العدالة والتنمية" عن "الشعوب الديموقراطي" منذ الانتخابات البلدية في منتصف عام 2019، والتي وجّهت إنذاراً للحزب الحاكم، بعد انتصار المعارضة في معظم البلديات الكبرى، ولا سيما في مدينة اسطنبول. انتصارٌ لا يمكن أن يمرّ من دون تداعيات على معركة رئاسة الجمهورية التي يفترض أن يخوضها الرئيس الحالي، على رغم التباينات الدستورية حول ترشُّحه. وعلى هذه الخلفية، يمضي إردوغان في خطّة مواجهة المعارضة، عبر السعي إلى خلخلة صفوفها، ومحاولة ضرب خاصرتها الرخوة، "الحزب الجيّد"، الذي ينتمي إلى التيار القومي المتشدّد، والمتحالف مع "حزب الشعب الجمهوري" ضمن "تحالف الأمّة"، المعارِض هو الآخر. وإذ تضمّ المعارضة كذلك "حزب الشعوب الديموقراطي"، فإن خلق صدع بين التيارَين القومي والكردي يشكِّل الهدف الرئيس لإردوغان، وهو ما باشر فيه فعلاً من خلال خطوات متعدّدة بدأت منذ أكثر من سنة ونصف سنة.
في المرحلة الأولى، كانت محاولة فكّ "الشعوب الديموقراطي" عن قواعده، عبر إقالة معظم رؤساء البلديات التابعة للحزب من مناصبهم، وتعيين موالين لـ"العدالة والتنمية" بدلاً منهم. ومن ثمّ، بدأ توجيه تهم مختلفة إلى قادة ونواب في الحزب، على رأسهم رئيسه السابق، صلاح الدين ديميرطاش. وتمثّلت المحاولة الأخيرة في إسقاط الحصانة البرلمانية عن النائب غيرغيرلي أوغلو، في موازاة فتح دعوى لحظر "الشعوب الديموقراطي" نهائياً بتهمة التعامل مع "حزب العمّال الكردستاني" المصنَّف في تركيا "منظمة إرهابية". واستُكملت الإجراءات بعمليات اعتقال طالت رؤساء فروع الحزب في اسطنبول، أول من أمس، ومنها فرع بشيكتاش.
وفيما كان الجميع يتطلّع إلى الموقف الذي سيتبنّاه "الحزب الجيّد"، دعا نائب رئيس الحزب، ياووز آغير علي أوغلو، "الشعوب الديموقراطي" إلى فتح معركة في وجه "العمّال الكردستاني" و"إخراج الإرهاب ليس من أجندته السياسة وحسب، بل من أجندة كلّ الوطن"، لأنه "بالبقاء في ظلّ الإرهاب، ومن دون فتح هذه المعركة، فإنه يغلق نفسه بنفسه". ورأى أن "أيّ حزب يبقي نفسه في ظلّ الإرهاب يجب أن يغلَق. ومن يُخلّ بالقوانين، يجب أن يعاقَب". موقفٌ أدخل بعض الشكوك في أوساط المعارضة، وإن كان من المبكر الحكم على ما إذا كان سيتسبّب بشرخ في صفوفها، ولا سيما أنه لا يمكن "الحزبَ الجيّد" أن يتّخذ موقفاً علنياً معارضاً لدعوى حظر الحزب الكردي.
وفي ردود الفعل، هناك شبه إجماع على أن القرار سياسي بامتياز؛ حتى مدّعي عام الجمهورية السابق، بولنت يوجي تورك، وصف القرار بأنه سياسي، متسائلاً عمّا إذا كان أولئك الذين اجتمعوا مع الحكومة عام 2015 وأصدروا بياناً "إرهابيين أم سياسيين؟". وفي هذا الإطار، برز المفكّر إيمري كونغار على رأس المدافعين عن غيرغيرلي أوغلو، إذ رأى أن "الدفاع عنه هو دفاع عن الحريات والحقوق الأساسية التي كفلها الدستور والتي سيحتاج إليها يوماً ما كلّ واحد منا"، معتبراً، في مقالة نشرتها صحيفة "جمهورييت"، أن الحاجة ماسّة إلى الدفاع عن الديموقراطية وعدم تخريب دولة الحرّيات التي نصّ عليها الدستور، إذ ليس من المهمّ، بحسبه، "معرفة من هو غيرغيرلي أوغلو، بل المهمّ هو ماذا فعل وماذا لم يفعل. وما دام خلال الدعوى نائباً منتخَباً، يجب أن لا تسقط عنه الحصانة قبل صدور الحكم. وبما أنه توجّه معترضاً إلى المحكمة الدستورية، فإن المرحلة القانونية مستمرّة، ويجب عدم إسقاط النيابة عنه". لكن رئيس البرلمان خالف كلّ الأعراف، وطرح موضوع إسقاط العضوية عنه، وفاز بتحالف أصوات "العدالة والتنمية" و"الحركة القومية". من جهته، أعرب أحمد داود أوغلو، رئيس "حزب المستقبل" الناشط بقوّة ضد "العدالة والتنمية"، عن اعتقاده بأن "همّ إردوغان ليس محاربة الإرهاب، بل في مكان آخر، إذ إنه يعيش حالة خوف تتوسّع"، متسائلاً: "كيف تطلبون أصواتاً من ناس لا تحترمون أصواتهم وتعتبرونها لاغية؟"، ومضيفاً أنه "مع الأسف، إنها السياسة نفسها التي يقوم بها إردوغان والتي كان هو ضحيّتها في وقت سابق". أمّا علي باباجان، رئيس "حزب الديموقراطية والتقدُّم"، فشدّد على أن تصحيح الديموقراطية لا يكون بالاعتقال بل بتقوية النزعة الديموقراطية، فيما رأى الرئيس السابق، عبد الله غول، أن إسقاط الحصانة عن غيرغيرلي أوغلو، كما الدعوة إلى حظر "الشعوب الديموقراطي"، "عمل خاطئ"، متسائلاً: "كيف للحكومة أن لا ترى أن هذا الإجراء لا معنى له ويشكّل عبئاً عليها؟".
دخل «الشعوب الديموقراطي» البرلمان في انتخابات 2015 بعدما نال أكثر من 13% من مجموع الأصوات


وفي وقت كان فيه بعض نواب "العدالة والتنمية" يحاولون إخراج غيرغيرلي أوغلو من قاعة البرلمان بعد إسقاط حصانته النيابية، استحضر الكاتب حسن جمال حالة نواب أكراد "أمسك البوليس برقابهم" عام 1994، وهم خارجون من البرلمان لسوقهم إلى السجن، وعلى رأسهم النائبة السابقة ليلى زانا. ورأى جمال أن إسقاط حصانة غيرغيرلي أوغلو يُعدُّ ضربة مميتة لإرادة الأمة والديموقراطية وحقوق الإنسان، متسائلاً: "كيف يمكن الدولة أن تُسقط الحصانة وتغلق حزباً نال ستة ملايين صوت؟". وما جرى، بحسبه، يمثّل ضربة للبرلمان في ظلّ سلطة إردوغان التي وصفها بأنها "فاشية". وفي مقالة ثانية، يوم أمس، قال: "هل الظلم في حقّ الأكراد جلب للبلاد العدالة أو السلام أو الديموقراطية؟"، مضيفاً: "فليُغلق حزب الشعوب الديموقراطي! ألم تتحوّل تركيا منذ زمن طويل إلى مقبرة للأحزاب السياسية؟".
وتُذكّر صحيفة "يني أوزغور بوليتيكا"، المؤيّدة لـ"العمّال الكردستاني"، بأنه بعد 27 سنة بالضبط، يتحرّك المدعي العام لحلّ "الشعوب الديموقراطي"، وفي كل مرّة، كان يتأسّس حزب كردي جديد على أنقاض الحزب السابق. وبحسب الصحيفة، فقد حُظرت سبعة أحزاب خلال 27 عاماً، وها هو الحزب الثامن على عتبة الإغلاق. وما يميّز "حزب الشعوب الديموقراطي"، الذي تأسَّس في عام 2012، أنه تمكّن من دخول البرلمان في انتخابات 7 حزيران/ يونيو 2015 بصفته حزباً وليس مجموعة مرشّحين مستقلّين، ونال أكثر من 13% من الأصوات، وتمثَّل بـ 80 نائباً. ثمّ فاز في انتخابات الأوّل من تشرين الثاني/ نوفمبر بـ 10.8% من الأصوات و59 نائباً، وتلت ذلك حملة اعتقالات واسعة في عام 2016 شملت معظم نواب الحزب ورؤساء بلدياته. وفي انتخابات 24 حزيران/ يونيو 2018، نال الحزب 11.7% و67 نائباً، وها هو اليوم يتعرّض للإغلاق بأمل أن يرث "العدالة والتنمية" بعضاً من قاعدته الانتخابية. لكن برفين بولدان، الرئيسة المشاركة لـ"الشعوب الديموقراطي"، قالت بعد اجتماع اللجنة المركزية للحزب إن "أصوات الحزب كانت ستة ملايين، وقد تضاعفت من الأمس إلى اليوم لتبلغ 12 مليوناً"، مضيفةً "(أننا) سنرفع أصوات حزبنا من 11%إلى 20%". وأشارت بولدان إلى أن القمع والضغط على الحزب تَكثّفا في السنوات الخمس الأخيرة، وأن "لا فرق بين هذه الحملات وبين مَن ألقى القنابل على البرلمان"، في إشارة إلى قصف الانقلابيين البرلمان في 15 تموز/ يوليو 2016. ودعت إلى السماح بمقابلة عبد الله أوجلان في سجنه، والممنوعة عنه المقابلات منذ ستّ سنوات. أمّا المواقف الخارجية، ولا سيما الأميركية والأوروبية، فلم تشذّ عن قاعدة انتقاد قرار دعوى الحظر، من دون أيّ خطوات ملموسة لوقف العملية أو تهديد باتخاذ أيّ إجراء.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا