الأزمة التي افتعلها الرئيس الأميركي، جو بايدن، عندما وصف نظيره الروسي بـ«القاتل»، تُمثّل منعطفاً خطيراً في مسار العلاقات الروسية - الأميركية، التي شهدت تدهوراً تدريجياً، ولكن مستمرّاً، في السنوات الماضية. لم يسبق أن تهجَّم رئيس أميركي شخصياً، حتى في أوج الحرب الباردة، على رئيس سوفياتي آنذاك، كما يفعل بايدن الآن. كان الاتحاد السوفياتي يوصَف بالنظام الشمولي، أو بـ«إمبراطورية الشرّ» في عهد رونالد ريغن، لكن الرؤساء الأميركيين لم يتهجّمواً شخصياً على القادة السوفيات، والعكس كان صحيحاً أيضاً. إضافة إلى ذلك، فإنّ المتهجّم، أي بايدن، هو من الرؤساء المخضرمين في العلاقات الدولية بحكم عمله في ميدانها لعقود. فقد كان نائباً للرئيس باراك أوباما خلال ولايتَيه لمدّة 8 سنوات، وقبلها كان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، والتي انضمّ إليها منذ أن أصبح عضواً في هذا المجلس بعد انتخابه في عام 1972. لسنا أمام رئيس عديم الخبرة في هذا الميدان كدونالد ترامب أو جورج بوش الابن. اللهجة الحازمة وغير المسبوقة التي استخدمها الرئيس الروسي في ردّه على بايدن تؤكد، هي الأخرى، أننا أمام منعطف في العلاقات بين البلدَين. فبعد أن تمنّى له «صحّة جيدة»، قال بوتين إن كلام بايدن يعكس مواصفاته لأننا «دائماً نرى مواصفاتنا في شخص آخر ونعتقد أنه مثلنا». غير أن الأهمّ في ردّه، وما لم تُسلّط وسائل الإعلام الضوء عليه، هو تذكيره بأن «الطبقة الحاكمة الأميركية تَشكّلت في عصر الغزو الأوروبي للقارة، والذي ارتبط بإبادة السكّان الأصليين... نحن مختلفون جينياً وثقافياً وفي منظوماتنا القيمية. على الولايات المتحدة أن تتعلّم تقبُّل ذلك. عليها أن تأخذ مصالح روسيا في الحسبان». عند حديثه عن الرئيس الصيني في إحدى مقابلاته، رأى بايدن أنه «قاسٍ»، لكنه لم يعتبره قاتلاً، على الرغم من أن غالبية النخبة السياسية الأميركية مقتنعة بأن التهديد الاستراتيجي الأكبر للموقع المهيمن لبلادها على النطاق الدولي هو بكين، وليس موسكو. صحيح أن فريق بايدن اعتمد خطاباً عدائياً حيال روسيا والصين خلال الحملة الانتخابية وبعدها، غير أن مستوى العداء للأولى بات أعلى راهناً. الأمر نفسه ينطبق على الاستراتيجية الدفاعية البريطانية التي أُعلن عنها أخيراً، والتي تُصنّف روسيا «تهديداً نشطاً»، بينما تَنظر إلى الصين على أنها «تحدٍّ نظامي». في الواقع، فإن للتصويب على روسيا من قِبَل الولايات المتحدة، وبريطانيا الدائرة في فلكها، في المرحلة الحالية، وظيفتَين رئيسيتَين: تسعير التوتُّر معها لإخافة الأوروبيين ودفعهم إلى التمسُّك بـ«الحماية الأميركية»، وتصعيد الضغوط عليها لحملها على وقف تعاونها النوعي المتعاظم مع الصين. لم يُخفِ أقطاب إدارة بايدن أن عودة الولايات المتحدة إلى احتلال موقعها «الريادي» على رأس هرم النظام الليبرالي الدولي، منوط بنجاحها في «رأب الصدع» بين ضفّتَي الأطلسي وترسيخ التحالف مع أوروبا. غاية هذا التحالف، بحسب هؤلاء الأقطاب، هو التصدّي للقوى الدولية الصاعدة كروسيا والصين، والتي تمثّل تهديداً لـ«قيم» النظام الليبرالي الدولي، ولمصالح أبرز أطرافه. يسعى الأميركيون إلى إقناع الأوروبيين، وفي مقدّمتهم ألمانيا، بأن المصالح والقيم المشتركة تقتضي التوحُّد في مواجهة هاتين الدولتين. جارى الأوروبيون الإدارة الأميركية الجديدة في مواقفهم النقدية، الشديدة أحياناً، حيال بعض سياسات موسكو وبكين. لكن وجود مصالح مشتركة وازنة، كمشروع «السيل الشمالي 2» بين روسيا وألمانيا، الذي سيتيح تزويد الأخيرة وعدد من الدول الأوروبية الأخرى مباشرة بالغاز الروسي، وقناعة قسم من النخب الأوروبية الحاكمة، التي عَبّر عنها الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية مثلاً، بضرورة تعميق العلاقات مع روسيا لاجتذابها إلى أوروبا وإبعادها عن الصين، يتناقضان وتوجُّهات واشنطن الساعية إلى إثارة استقطاب بين معسكرَين متقابلَين: الصين وروسيا من جهة، و«الديموقراطيات الغربية» من جهة أخرى. باسم القيم الديموقراطية، وعبر التهويل بالخطر الذي يُمثّله تطوُّر القدرات العسكرية الروسية وعودة موسكو إلى المسرح الدولي، تَجهد الولايات المتحدة لإقناع الأوروبيين، وأوّلهم الألمان، بالتمسُّك بحمايتها، ولا ضير في سبيل ذلك من استفزاز روسيا لإثارة المزيد من التوتُّر معها. هي في الواقع تريد استتباع الأوروبيين عبر إخافتهم من «البعبع» الروسي. ويأتي التركيز على شخص بوتين والعمل على «أبلسته» وتصويره على أنه تجسيد للشرّ ليخدم هذه الاستراتيجية.
التصعيد الأميركي ضدّ روسيا سيفضي إلى المزيد من احتدام التناقضات على المسرح الدولي


فريق بايدن مدرك للتطوُّر النوعي الذي طرأ على قدرات روسيا العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية في العقدَين الماضيين، وهو يعرف أن التعاون المتزايد بينها وبين الصين سيفضي إلى تعزيز قوة البلدين في مقابل بلاده. غير أنه، وبدلاً من تقديم حوافز لروسيا لإبعادها عن الصين، التهديد الاستراتيجي الأكبر، يُصرّ على استعداء الدولتين معاً. ثمّة تحليل آخر يحاول تفسير هذه المقاربة الأميركية انطلاقاً من فرضية أن لروسيا نقاط ضعف مرتبطة أساساً باقتصادها، وأن تكثيف الضغوط عليها في مرحلة أولى، وعرض حوافز عليها في مرحلة تالية، قد يسمح بتحييدها عن المواجهة الدائرة مع بكين. مقال فرديريك كمب، رئيس مركز «الأتلانتيك كونسيل»، على موقع المركز، بعنوان «القاعدة الروسية - الصينية على القمر سبب إضافي لدفع بايدن إلى التفكير في استراتيجيته حيال بوتين»، مثال على هذه المقاربة. يشير كمب إلى أن الاتفاق المُوقّع لبناء هذه القاعدة هو دليل على أن روسيا ستتعاون مع الصين في صناعات الفضاء، بعد أن كانت الولايات المتحدة شريكتها لأكثر من ربع قرن في هذا المجال. تعاونٌ يُضاف إلى آخر متعاظم في شتّى المجالات العسكرية والتكنولوجية والعلمية والاقتصادية، سيؤدي إلى تمتين أكبر للشراكة بين البلدين. لكن، وبما أن روسيا هي بنظره الطرف الأضعف، فإن بلورة استراتيجية تدمج بين الضغوط والعقوبات من جهة، والحوافز في مرحلة ثانية، من جهة أخرى، قد تساعد على إبعادها عن الصين.
أيّاً كانت رهانات بايدن وفريقه، فإن التصعيد الذي شرع به ضدّ روسيا سيفضي إلى المزيد من احتدام التناقضات على المسرح الدولي، وتأجيج للصراعات في أكثر من بقعة من العالم.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا