في الذكرى الـ61 لأوّل تفجير نووي فرنسي في صحراء الجزائر في الـ13 من شباط/ فبراير الماضي، اعتبر وزير الخارجية الجزائري، صبري بوقادوم، أن هذا التفجير الذي عادل من 3 الى 4 أضعاف قنبلة هيروشيما، «تسبّب في تداعيات إشعاعية كارثية لا تزال أضرارها على البيئة والسكّان قائمة إلى اليوم». تلت هذا التفجير، الذي تمّ في إطار ما سُمّي عملية «الجربوع الأزرق»، سلسلة تجارب نووية فرنسية أخرى بلغ عددها 17، ما بين 1960 و1966. تصريح الوزير الجزائري ارتبط بصدور تقرير أعدّه المؤرّخ الفرنسي بنجامان ستورا، بطلب من رئيسه إيمانويل ماكرون، عن حرب الجزائر، ساوى عملياً بين العنف البنيوي التأسيسي للمستعمِرين الفرنسيين، الذي امتدّ 132 عاماً، ومقاومة الجزائريين، ليوصي بالنهاية بضرورة المصالحة بين ذاكرتَي «الفريقين»، أي المستعمِرين والمستعمَرين، بدلاً من طلب الاعتذار عن الجرائم المهولة التي ارتكبها الأوّلون. ما يعنينا هنا ليس الدخول في نقاش حول جرائم الاستعمار في بلدان الجنوب ومطالب شعوبه المحقة في الاعتذار والتعويضات، بل التذكير بالصلة العضوية بين سيطرة الغرب الاستعمارية وامتلاك بلدانه للتكنولوجيا النووية. لم تعد هذه التكنولوجيا، منذ زمن بعيد، مُلكاً حصرياً للقوى الاستعمارية القديمة والجديدة، غير أن فارقاً جوهرياً يُميّز شروط حصول بلدان الجنوب عليها، عن تلك التي سادت عندما امتلكتها بلدان كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا. فبلدان كالصين والهند وباكستان، وأخيراً إيران، لم تستخرج اليورانيوم من مناجم مستعمرات، أو أشباه مستعمرات، تابعة لها، وبأبخس الأكلاف، كما فعل المستعمِرون، ولا هي أجرت تجاربها النووية العسكرية على أراضي مستعمرات، مع التداعيات المُروّعة على سكّانها وبيئتها، والتي أشار إليها الوزير الجزائري. التكالُب الغربي على برنامج إيران النووي، السلمي حتى إشعار آخر، يفرض العودة إلى مراجعة هذه الحقبة من تاريخ «النظام الليبرالي الدولي» العتيد، الذي تَعِد إدارة بايدن وحلفاؤها الأوروبيون ببذل جميع الجهود الضرورية للحفاظ عليه، وأحد أوجهه الأكثر قتامة بالنسبة إلى بلدان الجنوب.
دفع المستعمَرون الثمن المهول لامتلاك المستعمِرين التكنولوجيا النووية

كان اليورانيوم، عند بداية تطوُّر التكنولوجيا النووية، العسكرية ومن ثمّ المدنية، سلعة استراتيجية لا تقلّ أهمّيتها عن أهمّية النفط. أكبر 3 بلدان منتِجة لليورانيوم حالياً هي كازاخستان (33%)، وكندا (18%)، وأستراليا (11%)، تليها ناميبيا (8%)، والنيجر (8%) وروسيا (7%)، ومن ثمّ أفريقيا الجنوبية وأوزبكستان وأوكرانيا والولايات المتحدة التي يصل مجموع إنتاجها إلى 15%. لكن استخراج اليورانيوم بدأ في دول كانت مستعمرات أو أشباه مستعمرات، بما فيها تلك التي كان لديها مخزون محدود منه كالكونغو، الذي كان خلال الحرب العالمية الثانية محتلّاً من بلجيكا، ويُسمّى «الكونغو البلجيكي»، والذي جُلب منه اليورانيوم الذي استُخدم لصناعة قنبلة هيروشيما من قِبَل الولايات المتحدة. بلدان مستعمَرة أخرى كالغابون والنيجر ومالي وناميبيا وجنوب أفريقيا، والمناطق التي يعيش فيها السكّان الأصليون في أستراليا، كانت مصدراً لليورانيوم الذي استُخرج بأبخس الأثمان وبوسائل بدائية، ومن دون مراعاة لأبسط شروط المحافظة على صحّة عمّال المناجم المحلّيين وسلامتهم، والذين تعرّضوا لإشعاعات تَسبّبت لأعداد كبيرة منهم في أمراض سرطانية مميتة. ظَنّت الولايات المتحدة، بعد قصفها النووي لهيروشيما وناغازاكي، أنها ستنجح، عبر احتكارها للقدرة على الإفناء، في التأسيس لسيطرة أحادية على العالم، إلا أن التطوُّرات اللاحقة حالت دون ذلك. فإضافة إلى الاتحاد السوفياتي الذي كَثّف جهوده لامتلاك السلاح النووي، سعت فرنسا وبريطانيا إلى تحقيق الغاية نفسها. وقد لفتت غابرييل هيكت، الأستاذة في قسم التاريخ في جامعة ستانفورد، في مقال مهمّ بعنوان «الأنتولوجيا النووية»، إلى أن «قادة فرنسا وبريطانيا، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم يأملوا فقط أن يضمن السلاح النووي النفوذ الدولي لبلدانهم كبديل من السيطرة الاستعمارية التي بدأت بالتراجع يومها، بل أن يمنع تحوّل بلدَيهم بدورهما إلى مستعمرات خاضعة للقوى العظمى الجديدة. فقد حذر اللورد شيرويل، المستشار العلمي الرئيس لتشرشل، من مغبّة اعتماد بريطانيا الكامل على الولايات المتحدة، لأنها ستتراجع، والحال هذه، إلى مصاف أمم الدرجة الثانية المُكلَّفة بتأمين قوات رديفة لجيوش القوى العظمى، كما هي حال السكّان الأصليين الذين انضموّا إلى جيوشنا والذين يُجهَّزون بأسلحة خفيفة حصراً». أشارت هيكت، أيضاً، إلى كلام رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق (1957-1958)، فليكس غايار، الذي جزم بأن الأمم التي لا تعمل على تطوير قدراتها النووية ستجد نفسها في وضعية مشابهة «للشعوب البدائية في أفريقيا، في مقابل الدول الصناعية المتقدِّمة».
السعي المحموم لامتلاك السلاح النووي قاد هذه الدول إلى تحويل بعض مناطق مستعمراتها السابقة وجوارها الى حقول تجارب لأسلحتها النووية. فرنسا، بعد الصحراء الجزائرية، أجرت 147 تفجيراً نووياً في بولينيزيا في المحيط الهادئ بين 1975 و1996. بريطانيا شرعت، هي الأخرى، في تنفيذ 88 تفجيراً مماثلاً بين 1952 و1991، تمّ جزء منها في صحراء أستراليا الجنوبية، في مناطق عيش السكّان الأصليين. أمّا الولايات المتحدة، فقد قامت بـ67 اختباراً نووياً، بينها 23 عملية تفجير، في جزر مارشال في المحيط الهادئ بين 1946 و1958، ومنها تفجير قنبلة هيدروجينية في إطار عملية «كاستل برافو» أدت إلى غرق 3 جزر بشكل تام. نهبت القوى الغربية اليورانيوم من مستعمراتها، وجعلت قسماً منها حقلاً لتجاربها النووية العسكرية، مع مفاعيل وتداعيات كارثية لم يجرِ حسابها بدقة، وما زالت شعوبها تعاني منها حتى الآن. دفع المستعمَرون الثمن المهول لامتلاك المستعمِرين التكنولوجيا النووية. يجب أن تبقى هذه الحقيقة ماثلة في الأذهان عند الإنصات إلى حديث أيّ مسؤول غربي عن البرنامج النووي الإيراني و»مخاطره» وسبل التوصُّل إلى تسوية بشأنه.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا