تعاني الولايات المتحدة ركوداً جيوسياسياً بفعل التحوُّلات على مستوى الداخل، كما الخارج. ركودٌ لن تنفع معه وعود متضخّمة من قَبيل «نحن عُدنا... وجاهزون لقيادة العالم»، فيما يَئنّ البلد تحت وطأة أزمات بنيويّة ستُداوى هي الأخرى عن طريق "إعادة البناء على نحوٍ أفضل". لا يعي "العملاق المقيَّد»، حتى الآن، أن الحصول على الكعكة كاملةً لم يَعد في متناول اليد، وأن علاج المشاكل يقتضي أوّلاً الاعتراف بحجمها، في موازاة عدم المبالغة في الوعود، والابتعاد عن الرغبة في محو «إرث» دونالد ترامب، الذي سيشكِّل الانسلاخ عن نهجه خسارةً مضاغفة للرئيس الحالي
بعنوان "العملاق مقيَّداً: التجديد في الداخل يتطلّب ضبط النفس في الخارج"، كتب تشارلز كوبتشان مقالة في مجلّة "فورين أفيرز" الأميركية، تناول فيها خطط الرئيس الأميركي، جو بايدن، المنوي اتّباعها على مستويَي الداخل والخارج. وإن كان كوبتشان قد وصف تلك الخطط بـ"الطَموحة"، إلّا أنه حذّر من رفع سقفها، ومن الانسلاخ كلّياً عن نهج دونالد ترامب، وخصوصاً في ظلّ الركود الجيوسياسي الذي تعانيه البلاد.
بالنسبة إلى الداخل، وعَد بايدن بـ"إعادة البناء على نحو أفضل"، متحدِّثاً عن "استثمارات ضخمة" ستُخصَّص لـ"التعافي من وباء كورونا، والرعاية الصحّية، والتعليم، والبنية التحتية، وغيرها". أمّا خارجياً، فارتأى الرئيس الجديد القفز فوق نهج "أميركا أولاً" الذي اتّبعه سلفه، لإعادة بلاده إلى المسرح العالمي. وانطلاقاً من هنا، يَعتقد الكاتب بأن بايدن "لن يتمكّن من الحصول على كلّ شيء"، وأنه "سيكون من الحكمة ألّا يبالغ في الوعود"، عازياً ذلك إلى التدهور الاقتصادي والسياسي الذي تعانيه الولايات المتحدة. وهذا يتطلّب، بنظر كوبتشان، تركيز الإدارة الجديدة على "التجديد المحلّي" كأولوية "تأتي حتماً على حساب الجهود المنوي بذلها خارجياً"، لأنه إذا أراد بايدن التأكيد أن "الترامبية" كانت أكثر من منعطف مظلم، فيجب على إدارته معالجة السخط الاقتصادي الذي أدّى بالرئيس السابق إلى اتباع "سياسات غاضبة". ورأى الكاتب أنه "لن يكون من السهل ضمان بقاء الأولويات المحلية على رأس القائمة"، في ضوء "التزامات واشنطن الخارجية، التي فشلت الإدارات الأميركية المتعاقِبة في انتزاع نفسها منها"، وخصوصاً لجهة "الحروب الأبدية" المتوارَثة. في الوقت نفسه، رأى كوبتشان أنه ليس بإمكان أميركا أن تدير ظهرها للعالم الخارجي، وخصوصاً في ظلّ صعود الصين والمشاكل الروسية، ما يعني أن "الانعزالية ليست خياراً".
من هنا، خَلص إلى وجوب تحقيق بايدن "توازناً دقيقاً"؛ في السياسة الخارجية، يجب أن يتّبع خططاً طموحة بما يكفي لتأمين المصالح الأميركية، على أن تتمتّع بالدعم الشعبي وأن تتماشى مع أولويات الإدارة على مستوى الداخل، بما في ذلك استثمار الوقت ورأس المال السياسي، والإنفاق على التجديد المحلّي، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى تعزيز نفوذ الولايات المتحدة في الخارج مستقبلاً. أمّا على المدى القصير، فسيواجِه بايدن قيوداً قوية على سياسته الخارجية؛ إذ إن أميركا ربّما تكون مستعدّة لقيادة العالم، ولكن فقط بـ"القدْر الذي تسمح به القيود المحلّية والدولية". وبالتالي، فإنّ من الأفضل لبايدن أن "يستهدف أهدافاً واقعية ويُحقّقها، بدلاً من أن يتبنّى أهدافاً خيالية تُفقده ثقة الشعب الأميركي وحلفاء البلاد على حدّ سواء".
يحتاج بايدن إلى أن يظلّ على دراية بالتحوّلات الداخلية، فيما لو أراد الحفاظ على قوّته السياسيّة


وعن الحدود في الداخل، رأى كوبتشان أن السياسة الداخلية تشكِّل أكبر قيود على سياسة بايدن الخارجية. وأضاف إن "ترامب ربّما كان رجل دولة سيّئ الحظّ، لكنه لاحظ بشكل صحيح أن جزءاً كبيراً من الناخبين الأميركيين قد سئموا التشابكات الأجنبية غير المحدودة". ولذا، يحتاج بايدن إلى أن يظلّ على دراية بالتحوُّلات الداخلية، فيما لو أراد الحفاظ على قوّته السياسية، والاحتفاظ بالكونغرس في انتخابات التجديد النصفي عام 2022، والحفاظ على الاستثمارات المحلّية اللازمة لترويض السخط الذي أدّى إلى صعود ترامب. ورأى أن بايدن "يدرك هذا التحدّي"، مشيراً إلى أن معظم الأميركيين يرحّبون بعودة الرئيس الذي يدافع عن حقوق الإنسان والحلفاء "الديموقراطيين"، إلّا أن "الدعم الشعبي لسياسة خارجية طموحة ومكلفة سيكون من الصعب الحصول عليه". وفي ما يخصّ التجارة، قال الكاتب إنه على الرغم من أن الشركات الكبرى استفادت بشكل كبير، إلّا أن الكثير من الأميركيين يشعرون بأنهم "تخلّفوا عن الركب"، وباتوا اليوم يرغبون في "صفقات تجارية أكثر ملاءمة للعمّال"، وخصوصاً بعد "فشل تحرير التجارة في تحقيق الفوائد الجيوسياسية المبتغاة". أمّا بالنسبة إلى التعرفات الجمركية التي فرضها ترامب، فيُرجّح كوبتشان أن يقرّر بايدن إلغاء بعضها، ولا سيما تلك التي تطال حلفاء واشنطن، على رغم الضغوط التي يواجهها من الجناح التقدُّمي لحزبه ليكون حازماً في هذه المسألة.
وكما القيود الاقتصادية على السياسة الداخلية، رأى كوبتشان أن هناك قيوداً اقتصادية أيضاً على السياسة الخارجية. فالحزمة المقترَحة للإغاثة من الوباء (مرّرها الكونغرس)، والبالغة 1.9 تريليون دولار، تُمثّل "أجرأ فعلٍ لسياسة استقرار الاقتصاد الكلّي في تاريخ واشنطن". في الوقت نفسه، أكّد الكاتب أنه حتى لو بقيت موازنة الدفاع البالغة نحو 750 مليار دولار، فإن أيّام إنفاق حوالى 6 تريليونات دولار على "الحروب الأبدية" في الشرق الأوسط "قد ولّت منذ زمن بعيد". وهنا تحديداً، تكمن أولوية تخفيف الأعباء العسكرية الخارجية وإقناع الحلفاء بالتعامل مع الركود الجيوسياسي، إلى جانب "مواصَلة جهود ترامب لسحب القوات الأميركية من أفغانستان والعراق وسوريا وتقليص البصمة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط"، في مقابل "الحفاظ على وجود عسكري قوي حيث تكمن أهميّة وجوده، وتحديداً في أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، حيث يظلّ التحقُّق من الطموح الروسي والصيني مصلحة حيوية لأميركا".
على الصعيد الدولي، أقرّ كوبتشان بأن الإدارة الأميركية تواجِه قيوداً قوية. وعلى رغم عملها الحثيث لإثبات أن واشنطن "مستعدّة لقيادة العالم" مجدّداً، إلّا أن بايدن "سيواجِه عالماً أقلّ استعداداً للقيادة (الأميركية) ممّا كان عليه في السابق"، في ظلّ خُطط الدول المنافسة، ومنها الصين وروسيا وتركيا. ومن هنا، حذّر من تَعهُّد بايدن بالدفاع عن "المُثُل الديموقراطية" في الداخل والخارج، وسط التأثير المتزايد للقوى "غير الليبرالية"، معتبراً أن على الإدارة الجديدة أن "تخطو بحذر". ولفت إلى أن العديد من أولويات بايدن الخارجية في ما يخصّ تسوية الملفّات الدولية تتطلّب "عملاً مشتركاً" مع بكين وموسكو وأنقرة وحكومات أخرى على مبدأ "الأخذ والردّ البراغماتي". وتطرّق الكاتب إلى الحلفاء التقليديين لواشنطن، معتبراً أن العودة إلى أدوارهم السابقة كشركاء صغار أمر "لن يروقهم"، وخصوصاً الأوروبيين منهم، مقترحاً أن يقوم بايدن بالسعي إلى "تسوية هذه القيود من خلال صفقة مباشرة بحيث تمنح واشنطن الدول الأخرى نفوذاً أكبر، في مقابل تحميلها مسؤولية إضافية".
في المحصّلة، خلص كوبتشان إلى أنه لا يزال يتعيّن على واشنطن القيادة، ولكن بلمسةٍ أخفّ تعكس المتغيّرات العميقة التي حدثت في الداخل والخارج منذ أربعينيات القرن الماضي. وعلى رغم ذلك، فهو شدّد على وجوب عدم إهمال بايدن ما تمّ العمل عليه في خلال فترة ترامب، وعلى مواصلة جهود الأخير في تصحيح الإفراط في التسلُّح العسكري، وتقليص الالتزامات الخارجية، واختيار معارك واشنطن بعناية أكبر، والضغط على الحلفاء للقيام بالمزيد، مستنتجاً أن "الطموح المبرَّر لأجندة بايدن المحلّية يحتاج إلى أن يقترن بالتواضع الحكيم في سياسته الخارجية... هذه هي معادلة إعادة البناء بشكل أفضل في الداخل والخارج".



إدارة بايدن متفائلة بخطّة تحفيز الاقتصاد


أعلنت وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، أمس، أن خطّة الرئيس جو بايدن لتحفيز الاقتصاد المتضرّر من جرّاء تداعيات وباء «كورونا»، والبالغة قيمتها 1,9 تريليون دولار، ستتيح موارد كافية لتغذية تعافٍ «قوي جدّاً» لاقتصاد الولايات المتحدة، لكنّها لن تعالج مشاكل التفاوتات القائمة منذ أمد طويل. وقالت الوزيرة الأميركية، في تصريحات إلى شبكة «إم إس إن بي سي»، إن «مشروع القانون هذا سيقدِّم إلى الأميركيين المساعدة التي يحتاجون إليها لتجاوز الوباء، ونحن نتوقّع أن الموارد التي يتيحها ستغذّي فعلاً تعافياً اقتصادياً قويّاً جدّاً». وكرّرت يلين توقّعاتها بأن حزمة التحفيز ستسمح لبلادها بالعودة إلى مستويات «التوظيف الكامل» السابقة للفيروس، بحلول العام المقبل. وعمّا إذا كانت الزيادة في الإنفاق ستثير ضغوطاً تضخميّة في الاقتصاد، أجابت يلين بأنها لا تتوقّع أن يَحدث ذلك، لكن «يوجد الكثير من المخاطر التي تواجه هذا الاقتصاد»، والحزمة «تعالج أكبر تلك المخاطر التي يمكن أن يكون لها تأثير سلبي دائم على الأميركيين».



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا