لندن | عاشت الإكوادور، الأحد الماضي (7 شباط/ فبراير)، ليلة تاريخية لا تُنسى، وما يشبه كرنفالاً شعبياً عفوياً هائلاً، ثيمته «وداعاً لينين « - إشارة إلى الرئيس الحالي لينين مورينو -، وذلك بعد الإعلان عن النتائج الأوّلية لجولة أولى من الانتخابات الرئاسية، حصل فيها مرشّح يساري على أعلى نسبة من الأصوات، في الوقت الذي فشل فيه مصرفي ثريّ تدعمه الولايات المتحدة وأراده مورينو خليفة له، في الحصول على عدد كافٍ من الأصوات للتأهّل إلى الجولة النهائية (نيسان/ أبريل المقبل). وتَصدَّر أندريس آراوز، مرشّح حزب «التجمّع من أجل الأمل»، هذه الجولة بحصوله على 31.5 في المئة من مجموع الأصوات، مُتقدِّماً على أقرب منافسيه، ياكو بيريز، وهو زعيم من السكّان الأصليين وعالِم بيئة، جاء في المرتبة الثانية بنسبة تزيد قليلاً على 20 في المئة، فيما تخلّف الخليفة المفضَّل للرئيس السابق، لينين مورينو، المصرفيّ غييرمو لاسو، إلى المركز الثالث بأقلّ من 20 في المئة بقليل. وإذا تأكّدت هذه النتائج رسميّاً، فإنها ستفرض ضرورة اللجوء إلى جولة ثانية نهائية بين آراوز وبيريز، إذ إن الفوز من الجولة الأولى يحتاج وفق الدستور إلى حصول أحد المرشّحين على 50 في المئة زائداً صوتاً واحداً، أو 40 في المئة على الأقلّ وبتقدّم بفارق 10 نقاط على أقرب المنافسين. ويبدو آراوز، الذي يدعمه الرئيس السابق رفائيل كوريّا ويتعهّد بمواصلة نهجه الثوري الاشتراكي، الأوفر حظاً إلى الآن في الفوز بمنصب الرئيس، لكنه بالتأكيد كان يفضّل لو تنافَس في الجولة الثانية مع لاسو اليميني حيث التناقض السياسي والاقتصادي ظاهر وجليّ، بدلاً من مواجهة بيريز اليساريّ (المزيّف) الذي قد يبدو من بعيد أقرب أيديولوجياً له، ويمكن أن يكون منافساً جدّياً، ولا سيّما بعد أن تحمّس لاسو لفكرة تشكيل تحالف عريض من أنصاره وأنصار خافير هيرفاس (المركز الرابع) لدعم بيريز، سعياً لمنع عودة مَن وصفهم بـ»اليسار الشعبوي الفاسد»، أنصار الرئيس كوريّا، إلى السلطة مجدّداً.
وإذا كانت نتيجة الجولة الأولى هزيمة ساحقة لإرث مورينو، الذي سيترك الرئاسة خلال أشهر بينما انحطّت شعبيّته إلى 8 في المئة - وهي أدنى مستويات تأييد حصل عليها رئيسٌ حكَم البلاد منذ قيام الجمهورية ودفعته إلى الامتناع عن ترشيح نفسه لولاية ثانية تجنُّباً للإذلال العلني -، فإنها أيضاً تصويت بـ»لا» صريحة لسياسات واشنطن في المنطقة، وللنهج الاقتصادي النيوليبرالي الكارثي الذي أضاع خلال سنوات قليلة كلّ مكاسب حقبة الثورة الاشتراكية في عهد كوريّا، وفاقم من الفقر، ووَسّع الفجوة في المداخيل، وأسلم رقاب الإكوادوريين لهيمنة «صندوق النقد الدولي»، ذراع الهيمنة الأميركية الماليّ.
ويلقِّب السكّان المحلّيون الرئيس لينين، بـ»الخائن»، بعدما تَرشّح كخليفة للرئيس السابق كوريّا وعلى لائحة حزبه، قبل أن ينقلب تماماً بعد فوزه بالانتخابات ويتراجع عن سياسات سلفه الاشتراكية التوجّه، ويلقي بأنصاره في السجون، ويتبنّى نهج فرض التقشّف المالي والخصخصة والتوسّع في الاقتراض الخارجي، وغيرها من التدابير لخدمة مصالح البورجوازية وقطاع الأعمال على حساب الأغلبية الساحقة الفقيرة من المواطنين، فضلاً عن سحبه المخزي لحق اللجوء السياسي من جوليان أسانج، مؤسِّس منصّة «ويكيليكس»، والسماح باعتقاله من مقرّ سفارة الإكوادور في لندن، حيث كان الأخير محاصَراً لثمانية أعوام كاملة.
نتيجة الجولة الأولى «لا» صريحة لسياسات واشنطن في المنطقة وللنهج الاقتصادي النيوليبرالي


الإكوادور، التي هي دولة صغيرة المساحة في أميركا الجنوبية يبلغ عدد سكّانها 17 مليوناً، تُعدّ غنية بالموارد والصناعات الرئيسة كالنفط - تمتلك «تكساكو» الأميركية 37% من شركة النفط الحكومية التي تنتج 80% من صادرات البلاد، بينما تتولّى شركات أجنبية إنتاج الباقي - والبتروكيماويات والمنسوجات، وتُعتبر أهم مُصدِّر للموز في العالم، وأحد كبار المورّدين لـ»الجمبري»، ولديها احتياطيات مهمّة من الذهب والفضّة والنحاس. وكان متوسّط نموّ الناتج المحلي الإجمالي فيها بلغ 4.3 في المئة في عهد الرئيس كوريّا (2006 - 2014)، لذا كان قادراً على رفع الحدّ الأدنى للأجور وتحسين استحقاقات الضمان الاجتماعي بشكل كبير بتمويلها جزئياً من خلال زيادة الضرائب على شريحة الأثرياء. ولكن منذ تولّي الرئيس الحالي السلطة، تراجَع متوسّط نموّ الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يقرب الصفر في المئة، وهو ما لجأ على إثره مورينو إلى الاقتراض - بتسهيلات أميركية - من «صندوق النقد الدولي»، مقابل تبنّيه تدابير تقشّفية صارمة. وقد أثار ذلك حركة احتجاج شعبية ضخمة في عام 2019، أجبرته في نهاية المطاف على إلغاء بعض شروط حزمة «النقد الدولي»، وتَسبّبت في فراره من العاصمة خوفاً من بطش المتظاهرين. ثمّ جاء وباء «كورونا»، وانعدام كفاءة إدارة مورينو في مواجهته، وضعف النظام الصحّي المخصخص، واعتماد جزء كبير من الاقتصاد على العمالة المؤقّتة، لتتسبّب في كارثة تامّة. وأدّى الوباء إلى تسجيل وفيات هي من بين الأعلى لكلّ مليون نسمة على مستوى العالم، فيما شلّ 70 في المئة من الشركات التجارية في البلاد، وأفقد أكثر من 600 ألف عامل وظائفهم. وبالطبع، فإن تأثيرات الأزمة كانت غير متناسبة بين الطبقات، وأضرّت خصوصاً بالأسر ذات الدخل المنخفض، وزادت من عدد الفقراء في البلاد. وكان حلُّ مورينو لمواجهة الركود، الحصول على المزيد من القروض الخارجية مقابل إلغاء القيود التنظيمية للبنك المركزي ورفع أسعار البنزين والديزل إلى أسعار السوق العالمية. وقد حصل، إلى جانب قرض الـ6.5 مليارات دولار من «النقد الدولي»، على قرض آخر بقيمة 3.5 مليارات دولار من إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، مقابل خصخصة مصفاة نفط رئيسة وأجزاء من الشبكة الكهربائية في البلاد واستبعاد الصين من تطوير قطاع الاتصالات. كما عمد مورينو إلى خفض الإنفاق «الطارئ» للتعامل مع الوباء بقيمة 4 مليارات دولار، وتصفية شركة الطيران الوطنية، وإغلاق العديد من السفارات في الخارج. ووفقاً لتقرير صادر عن «النقد الدولي» في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، فإن الإكوادور سوف تحتاج إلى تمويل جديد آخر بقيمة 7.6 مليارات دولار في عام 2021، مع تدابير لرفع ضريبة القيمة المضافة وإجراءات تُسهّل صرف العمال عند عدم الحاجة اللحظية لهم. ولذا فإن الرئيس المقبل - مهما كانت هويّته - سيتسلّم اقتصاداً منهاراً ومجتمعاً أرهقته الجائحة، وجبلاً من الديون الخارجية التي تصل إلى 52 مليار دولار (ليس للإكوادور عملة وطنية منذ العام 2000 وتتعامل بالدولار الأميركي). لكن آراوز، وهو خبير اقتصادي، يقول إنه إذا فاز بالمنصب فلن ينفّذ شروط «النقد الدولي» التي تفاوض عليها الرئيس مورينو، ويريد بدلاً من ذلك تعزيز النموّ عبر زيادة كبيرة في الإنفاق العام، ووضع حدّ للخصخصة، ورفع الضرائب على الأثرياء، وفرض ضوابط على التحويلات لوقف مغادرة الأموال للبلاد (حوّل أثرياء البلاد بالفعل 30 مليار دولار إلى الخارج خلال الأزمة الأخيرة).
ثلاثة أشهر فاصلة، إذن، عن الجولة النهائية من الانتخابات، التي ينبغي كسبها لمصلحة مرشّح اليسار لتبدأ بعدها معركة الشعب الإكوادوري الحقيقية، لاستعادة بلاده من الهاوية التي قاده إليها مورينو.