يواجه الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، تحدّيات خارجية معروفة، على رأسها الضغوط الأميركية، خصوصاً بعد وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض. وعلى رغم المناخ الإيجابي في العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي، لكن الثقة في نوايا إردوغان وانفتاحه المستجدّ لا تزال ضعيفة. وإذ يدرك هذا الأخير أن الغرب لن يَعدم وسيلةً لإضعافه تمهيداً لإخراجه من السلطة، فإنه يواجه أيضاً تحدّيات على المستوى الداخلي، تُشكِّل أساساً لما يمكن أن تكون عليه خطواته المقبلة.
الانتقال من النظام البرلماني إلى نظام الشخص الواحد كان حلماً بالنسبة إلى إردوغان (أ ف ب )

وفي جميع استطلاعات الرأي، يقف حزب «العدالة والتنمية» في موقع متراجع عمّا كان عليه سابقاً، في مقابل تقدُّم بارز لمنافسي إردوغان المحتمَلين. آخر تلك الاستطلاعات أجرته شركة «أوراسيا»، وأظهر أن «تحالف الجمهور» بين حزبَي «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية» سينال 43.7% من الأصوات، فيما سينال «تحالف الأمّة» من حزبَي «الشعب الجمهوري» و«الجيد» 38%. لكن في كلّ الانتخابات التي جرت، في الأعوام الثلاثة الأخيرة، كان حزب «الشعوب الديموقراطي» الكردي حليفاً غير رسمي لـ«الأمّة»، وقد أعطاه استطلاع «أوراسيا» 10.5% من الأصوات. ولدى إضافتها إلى أصوات هذا التحالف، ينال هذا الأخير 48.5%. وما يعطيه استطلاع الرأي للحزبَين اللذين انشقّا عن «العدالة والتنمية» يرجّح كفّة خصوم إردوغان، في ما لو اتّحدوا، لهزيمته بسهولة في الانتخابات الرئاسية المقبلة. فقد حصل حزب «المستقبل» الذي أسّسه أحمد داود أوغلو على 3%، ومثله تقريباً حزب «الديموقراطية والتقدّم» الذي أسّسه علي باباجان. وعلى صعيد الانتخابات الرئاسية، أعطى الاستطلاع تفوّقاً لخصوم إردوغان المحتملين، وبرز منهم مرشّحان عن حزب «الشعب الجمهوري» نفسه؛ الأول رئيس بلدية أنقرة منصور سافاش، ورئيس بلدية اسطنبول أكرم إمام أوغلو. فإذا كان المرشح هو سافاش، فسينال 43.9% مقابل 36.5% لإردوغان، وإذا كان إمام أوغلو سينال 42.6% مقابل 37% للرئيس الحالي.
بمعزل عن دقّة الاستطلاع من عدمها، فإن حزبي «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية» يُسجّلان تراجعاً في شعبيّتهما، على رغم أن آخر انتخابات نيابية ورئاسية عام 2018 أعطت «العدالة» وإردوغان تفوّقاً واضحاً. وقد جرت تلك الانتخابات في ظلّ نظام سياسي جديد أُقرّ في استفتاء عام 2017 ضمن التصويت على تعديلات دستورية واسعة جداً وجوهرية تكاد تعادل دستوراً جديداً. وكان عماد تلك التعديلات تحويل النظام من برلماني إلى رئاسي، وإلغاء منصب رئيس الحكومة، وتقليص كبير في صلاحيات البرلمان، ولا سيما بالنسبة إلى إقرار الموازنة.
الانتقال من النظام البرلماني إلى نظام الشخص الواحد كان حلماً بالنسبة إلى إردوغان. لكن التجربة دلّت على أنها لم تكن ناجحة، حيث إنه بالكاد فاز في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وتعرّض للهزيمة في الانتخابات البلدية، فيما كان النظام البرلماني يمنحه هامشاً أكبر بكثير للمناورة، كون حزبه، «العدالة والتنمية»، يحتلّ المرتبة الأولى وبفارق كبير عن الأحزاب الأخرى في أيّ انتخابات. في هذا المناخ غير المؤاتي لطموحات إردوغان في الفوز في الانتخابات الرئاسية لعام 2023، انطلقت محرّكاته لاتّباع استراتيجية جديدة على قاعدة «فرّق تَسُد».
انشقاق داود أوغلو وباباجان، وانسلاخ بولنت أرينتش نهائياً عن إردوغان، أضعفا حزب «العدالة والتنمية» بكل تأكيد. وبات الرئيس التركي في حاجة إلى كلّ نقطة أو حتى نصف نقطة. فكانت استراتيجية الانفتاح على بعض الأحزاب الصغيرة، وأبرزها حزب «السعادة» الذي كان أسّسه نجم الدين أربكان على قاعدة الوفاء لـ«الانتماء والأصالة» التي قامت عليها الحركة الإسلامية في تركيا. ومن نتائج هذا الحزب في الانتخابات المختلفة في السنوات الأخيرة، أنه نال من واحد إلى اثنين في المئة، وهي نسبة - في ظلّ الصراع على نصف النقطة - مهمّة، ويمكن أن يستند إليها إردوغان. وبالفعل، قام هذا الأخير، في حركة نادرة، بزيارة رئيس المجلس الاستشاري الأعلى في الحزب، أوغوزخان أصيل تورك، في منزله، وبدا الأخير منفتحاً للانضمام إلى «تحالف الجمهور». لكن اعتراضات من داخل حزب «السعادة» ارتفعت، واعتبرت موقف أصيل تورك فردياً ولا يعكس موقف الحزب، ما أدّى إلى بروز أكثر من اتجاه في داخله، يشي بانقسامه وربّما اضمحلاله، فيما لم يقدّم رئيس الحزب، تيميل قره ملا أوغلو، الذي اجتمع، يوم أمس، مع زعيم حزب «الشعب الجمهوري»، كمال كيليتشدار أوغلو، موقفاً واضحاً إزاء إعداد دستور جديد.
مع ذلك، لا تبدو أصوات حزب «السعادة» كافية لزرع الاطمئنان في قلب إردوغان، إذ أجمعت التحليلات على أن أصوات هذا الحزب ليست سوى «مُقبّلات» تمهيداً للانقضاض على الوجبة الرئيسة المتمثّلة بأصوات الحزب «الجيّد» برئاسة مرال آقشينير، المرشّحة المحتملة بدورها للانتخابات الرئاسية. و«الجيّد» هو الركن الثاني القوي في «تحالف الأمّة» مع «الشعب الجمهوري»، وتعطيه آخر استطلاعات للرأي حوالى 13% من الأصوات، وهي نسبة مهمّة جداً. وقد تأسَّس الحزب قبل سنوات إثر انشقاقه عن «الحركة القومية» بزعامة دولت باهتشلي، لتتوزّع أصوات اليمين القومي بين الحزبَين بمعدّل متساوٍ تقريباً، وبحدود 10% لكلٍّ منهما، تعلو وتهبط بحسب الظروف. لكن تركيز إردوغان، منذ حوالى السنة، على الحزب «الجيّد» كان من منطلق إثارة النزعة القومية ومحاولة فضّ التحالف الرسمي بينه وبين «الشعب الجمهوري»، كما فضّ التحالف غير الرسمي مع حزب «الشعوب الديموقراطي». لكن جهود الرئيس التركي لم تنجح حتى الآن.
يراهن إردوغان على أن الحديث عن دستور جديد سوف يخلق بلبلة في صفوف المعارضة التي عارضت سابقاً النظام الرئاسي


في هذا السياق، أطلق إردوغان، الاثنين الماضي، تصريحاً مفاجئاً بعد اجتماع الحكومة، جاء فيه حرفيّاً: «لقد حان وقت مناقشة دستور جديد. وفي حال توصّلنا إلى وحدة رؤية مع شريكنا حزب الحركة القومية، فسوف ننصرف في المرحلة المقبلة إلى العمل على ذلك». ولم يتأخّر دولت باهتشلي في ملاقاة إردوغان بالقول: «نحن في حاجة إلى دستور جديد ونظرة حزب الحركة القومية في الاتجاه نفسه». كان هذا الموقف مفاجئاً لأن البلاد منشغلة بوباء «كورونا» وأرقامه الكارثية في تركيا، وبالوضع الاقتصادي السيّئ الذي سبّبته الجائحة.
ومنطلق موقف إردوغان من دستور جديد، هو التخفيف من مركزية النظام الرئاسي وإعداد دستور يشطب المواد المتبقّية من دستور 1982 في اتّجاه تعزيز الحريات وما يتعلّق بتأسيس الأحزاب وغير ذلك. وفي حال مضى بالفكرة، يُعتقد أنه سينال تأييداً من الحزب «الجيّد»، ويفكّ تحالف الأخير مع المعارضة. حتى الآن، أطلق الرئيس التركي الفكرة، لكنها ما زالت غامضة وغير واضحة ولا أحد يعرف ملامحها. وهو الأمر الذي أثار استهجان الوسط السياسي، ذلك أن الدستور الجديد الذي أُقرّ في عام 2017 وغيّر وجه النظام في تركيا، لم تمرّ عليه ثلاث سنوات. وهذا يعني إمّا أن النظام الرئاسي قد أفلس ويجب العودة إلى النظام البرلماني، الأمر الذي يُعدّ غير منطقي لأن مدّة ثلاث سنوات غير كافية لاختبار نجاعة أيّ نظام سياسي؛ وإمّا أن إردوغان يخفي أهدافاً لا علاقة لها بالدستور وبالتحديث ولا بالتغيير. وبما أن العودة إلى النظام البرلماني غير واردة نهائياً لدى الرجل الذي أراد، بالنظام الرئاسي، محوَ صورة مصطفى كمال أتاتورك وإرثه، فإن الدعوة إلى إعداد دستور جديد تبدو مجرّد ملهاة لحرف أنظار الناس عن مصاعب البلاد الاقتصادية، وإرسال رسالة غير جدّية إلى أوروبا بنيّته تطبيق المزيد من الإصلاحات في تركيا. لكن الأهمّ، أن إردوغان يريد أن يطبّق، بطريقة أو بأخرى، ما فشل فيه حتى الآن، وهو شقّ تحالف المعارضة (حزبا «الشعب الجمهوري» و«الجيد»). لذلك، انتقد كيليتشدار أوغلو الدعوة إلى وضع دستور جديد، ودعاه، بدلاً من ذلك، إلى تطبيق الدستور الحالي وقرارات المحكمة الدستورية، معتبراً أن الشخص الذي لا يطبّق القانون في البلاد لا يمكن أن يؤتمن على إعداد دستور جديد.
يراهن إردوغان على أن الحديث عن دستور جديد سوف يخلق بلبلة في صفوف المعارضة التي عارضت سابقاً النظام الرئاسي. وبتعديل بعض بنوده، ربّما يلبّي بعض مطالب المعارضة التي، في حال رفضها الاقتراحات، ستبدو كما لو أنها تؤيّد النظام الرئاسي الحالي. إلى الآن، لا تزال النقاشات في بدايتها. لكن أهداف إردوغان لا تخفى على الغالبية. النائب عن حزب «الشعب الجمهوري» والكاتب في صحيفة «جمهورييت»، مصطفى بالباي، يستغرب خطوة الرئيس. ويقول إن الأخير «قام بما لا يمكن تصديقه: إنهاء مؤسّسة رئاسة الحكومة الموجودة منذ ألف عام؛ إنهاء دور الحكومة والوزراء واستبدالهم بمستشارين وموظفين في القصر الرئاسي؛ أخذ صلاحية إقرار الموازنة من البرلمان؛ إنهاء مبدأ فصل السلطات...». ويتساءل: «بعد كلّ هذا، ما الفائدة من الحديث عن تغيير في الدستور يطال أموراً ثانوية؟». ويرى أن المعارضة يجب ألّا تنجرّ إلى هذه اللعبة، لأن الهدف الرئيس منها مرتبط بالانتخابات الرئاسية واستمرار سلطة حزب «العدالة والتنمية». ويضيف بالباي أن الأهمّ الآن هو استمرار إشعار الشعب أن عليه تغيير السلطة أولاً، وأن المهمّة الأولى لـ«تحالف الأمّة» هي تقوية هذا الإحساس. وتكتب سيدا غوناي صو، من جهتها، في الصحيفة نفسها، أن إردوغان يراهن على استجابة الحزب «الجيّد»، وإيجاد شقاق بينه وبين حزب «الشعب الجمهوري»، وأنه يخيّر قواعد «الجيّد» بين أن تكون جزءاً من تحالف التيّار القومي والمحافظ، أو من تيار حزب «الشعب الجمهوري»، على أمل أن يتحرّك هذا الحزب خارج التنسيق والتحالف مع «الشعب الجمهوري».
تبدو مناورة إردوغان، حتى الآن، مكشوفة، خصوصاً أنه لا يملك، مع شريكه باهتشلي، سوى 337 نائباً لتعديل الدستور في البرلمان، فيما المطلوب ثلثا أصوات البرلمان، أي 400 من أصل 600 نائب. لكن في حال نال اقتراح تعديل الدستور أقلّ من 400 صوت وأكثر من 367 صوتاً، فلرئيس الجمهورية الحقّ في تحويل اقتراح التعديل إلى استفتاء، وهو ما يبدو متعذّراً. لذا، يسعى إردوغان إلى كسب أصوات نوّاب الحزب «الجيّد»، والتي تبلغ 36 نائباً. في ظلّ هذه اللوحة المعقّدة، ترفع المعارضة شعار: إسقاط السلطة أولاً، ومن ثمّ إعداد دستور جديد، وخلَا ذلك فإنها تعتبر أن ما يقوم به إردوغان مجرّد مناورات وألاعيب لشق صفوفها، ولضمان فوزه في انتخابات الرئاسة عام 2023.