لن يكون ممكناً تجاوز الإرث الثقيل الذي خلّفه دونالد ترامب، إن واصلت الإدارة الجديدة التمسّك برؤيته «المستنيرة» للمنطقة، وإن لم يكن لديها أدنى فكرة للإجابة عن سؤال: ما العمل؟ على أكثر من مستوى، يَحكم التخبُّط سياسة إدارة جو بايدن إزاء الشرق الأوسط، وخصوصاً إيران التي تأتي على رأس قائمة الأولويات الأميركية. وفي انتظار بلورة وجهة واضحة ستتقاطع، في أوجه كثيرة منها، مع تلك التي سادت أيّام الإدارة السابقة، بات جليّاً أن العودة إلى الاتفاق حول الملف النووي الإيراني، بنسخته الأولى، ليست في وارد البحث. خلاصةٌ عزّزتها تصريحات وزير الخارجية الجديد، أنتوني بلينكن، الذي دعا طهران، قبل يومين، إلى الالتزام الصارم ببنود الاتفاق، ريثما تفكِّر واشنطن بحلٍّ لا يضيع هباءً سياسة «الضغوط القصوى»، بل يبني عليها أيّ خطوة مستقبلية.في موازاة تصريحات بلينكن التي نبّه فيها إلى أن واشنطن لن تعود إلى الاتفاق النووي إلّا إذا عادت طهران إلى الوفاء بالتزاماتها التي تراجعت عنها رداً على سياسة «الضغوط القصوى» التي اتبعتها إدارة ترامب، أكّد مسؤولون في إدارة بايدن، لـ»وول ستريت جورنال»، أن الولايات المتحدة لا تخطّط لرفع العقوبات عن إيران بشكلٍ كامل، ولا سيّما أنها تسعى إلى إلحاق الاتفاق النووي بآخر يشمل مجمل القضايا، بحسب هؤلاء. هذه التأكيدات، معطوفةً على إرسال قاذفة «بي-52» للتحليق فوق الخليج للمرّة الثالثة منذ بداية العام الجاري، تشي بأن لا تغيير مرتقباً للقواعد التي أرساها الرئيس السابق. قواعد تريد الإدارة الجديدة الاستفادة منها قدر المستطاع، والبناء عليها لتعديل اتفاق 2015 بصورةٍ تستجيب للمتغيّرات التي طرأت منذ قرار الانسحاب من «خطة العمل الشاملة المشتركة» منتصف عام 2018. في ضوء ذلك، قال بلينكن إن إيران «لم تعد تحترم التزاماتها على جبهات عدّة. إذا اتّخذت هذا القرار بالعودة إلى التزاماتها فسيستغرق الأمر بعض الوقت، وثمّة حاجة أيضاً إلى وقت لنتمكّن من تقييم احترامها لالتزاماتها. نحن بعيدون من ذلك، هذا أقلّ ما يمكن قوله»، مضيفاً أنه «تالياً، سنستعمل ذلك كنقطة انطلاق لنضع، مع حلفائنا وشركائنا، ما سمّيناه اتفاقاً أكثر استدامة وصلابة لإدارة عدّة مواضيع أخرى إشكالية للغاية في العلاقة مع إيران».
أكّد بلينكن أن واشنطن ستعمل على اتفاق أكثر استدامة وصلابة لإدارة عدّة مواضيع إشكالية مع إيران


صحيح أن إدارة بايدن تعتزم سلوك المسار التفاوضي لانتزاع اتفاق يراعي مصالح حلفائها في المنطقة، ويشمل البرنامجَين النووي والبالستي، فضلاً عن حضور طهران الإقليمي، لكن الطريق هذا سيكون طويلاً وشاقاً، ولا سيما أن الجمهورية الإسلامية تطلب، من جهتها، أن تبادر واشنطن إلى الخطوة الأولى، عبر رفع العقوبات الأميركية قبل أيّ شيء آخر. وهي ذكّرت بايدن، بعد يومين فقط من تولّيه مهمّاته الرئاسية، بما تعتبره متطلّبات لإنقاذ الاتفاق النووي؛ إذ رأى وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، في مقالة نشرها على موقع مجلة «فورين أفيرز» الأميركية، أن «على الحكومة الجديدة في واشنطن حسم خيار أساسي: تبنّي سياسات إدارة ترامب الفاشلة ومواصلة السير على طريق ازدراء التعاون والقانون الدوليين... أو يمكن أن يختار بايدن طريقاً أفضل عبر إنهاء سياسة الضغوط القصوى الفاشلة التي تبنّاها ترامب، والعودة إلى الاتفاق الذي تخلّى عنه سلفه». عمليّة الأخذ والردّ هذه تعكس صعوبة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، والخروج من ظلّ سياسة ترامب حيال الجمهورية الإسلامية. ويقول جون ألترمان، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» الأميركي، في هذا السياق، إنه «كلما طاردتهم الإدارة، تلكّأ الإيرانيون... وكلما تراجعت الولايات المتحدة، سعى الإيرانيون إلى إجبارها على الانخراط. لا ينبغي أن نتوقّع عودة سهلة إلى المفاوضات مهما كان ما يريده فريق بايدن، ولا ينبغي أن نتوقّع أن تستسلم إيران التي يُفترض أنها مجروحة. بدلاً من ذلك، يجب أن نتوقّع مساراً طويلاً وأزمات».
وقبل أيام، أشار قائد القيادة الوسطى، «سنتكوم»، كينيث ماكنزي، إلى أن «هدف الولايات المتحدة ردع إيران عن الحرب»، قائلاً إن «سيل التهديدات» من جانبها ما زال مستمرّاً، على رغم «عدم قيامها في المدّة الأخيرة، هي وجماعاتها في المنطقة، بأيّ عمليات ضدّ الولايات المتحدة». وربط ذلك بحساباتها «للوصول إلى الإدارة الجديدة لترى ما إذا كانت هناك إمكانية للتغيير». بهذه التصريحات، مهّد ماكنزي لزيارته الأولى لإسرائيل، منذ تولّي بايدن الرئاسة. وعلى جدول أعماله لقاء سيجمعه إلى رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي، كما سيلتقي وزير الأمن بيني غانتس، ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وكبار قادة الأجهزة الأمنية في الكيان العبري. وتأتي الزيارة بعد تأكيد كوخافي أنه أوعز إلى الجيش الإسرائيلي بإعداد خطط دقيقة للعمل عسكرياً ضدّ إيران، واصفاً العودة إلى الاتفاق النووي معها بـ»السيّئ» لإسرائيل. ومن المتوقع أن يطلق ماكنزي، خلال محادثاته في تل أبيب، حواراً استراتيجياً، بخصوص رغبة الإدارة الأميركية الجديدة في العودة إلى الاتفاق النووي مع طهران.