الشخصيات التي حرص الرئيس الأميركي المنتخَب، جو بايدن، على ضمّها إلى إدارته تشي برغبته في التأكيد أن سياساته الداخلية والخارجية ستكون على النقيض من تلك المعتمَدة من قِبَل دونالد ترامب. استعادة الولايات المتحدة لـ»قوّتها الناعمة»، التي أَلحق بها ترامب أضراراً بالغة بحسب بايدن ومؤيّديه، تبدو في نظر هذا الأخير ضرورة حيوية لاستعادة بلاده موقعها القياديّ للعالم «الحرّ». وقد حضّ جوزف ناي، مخترع هذا المفهوم في حقبة الأحادية الأميركية بعد نهاية الثنائية القطبية، في مقال على موقع «ذي ناشيونال إنترست» بعنوان «القوة الناعمة الأميركية باقية بعد ترامب»، على منح الأولوية لتعزيز قدرة جذب يَعتبر أنها ليست ملكاً حصرياً للحكومة الأميركية، بل للمجتمع المدني أيضاً، وتكمن قوتها في «منظومة القيم» التي «جسّدتها الولايات المتحدة كدولة وكنمط حياة» في التاريخ المعاصر. اختيار الرموز الذين أسهموا في التوصّل إلى الاتفاق النووي مع إيران، كأنتوني بلينكن وجايك سوليفان، وأخيراً ويليام برنز، لاحتلال مواقع حسّاسة في الفريق الجديد، يرتبط، إضافة إلى الصلات الوثيقة التي تربطهم بالرئيس المنتخَب، بإرادة تظهير ما يُفترض أنه قطيعة مع توجّهات الإدارة السابقة في ميدان السياسة الخارجية. وتكتسب تسمية برنز، الدبلوماسي المخضرم وأحد أبرز المفكّرين المطالِبين بـ»إعادة اختراع السياسة الخارجية» لتتلاءم ومتغيّرات الوضع الدولي، مديراً للاستخبارات المركزية، أهمية خاصة في هذا الإطار. غير أن التحدّيات التي ستواجهها إدارة بايدن عند تسلمها مهامها ستوضح مدى قدرتها على «الاختراع» و»التجديد» في حقل السياسة الخارجية، وقد تكون فنزويلا أولى الساحات التي تُختبَر فيها هذه القدرة، ومدى فعاليتها في تحقيق الأهداف الأميركية.
«اختراع سياسة خارجية جديدة»
تعيين ويليام برنز على رأس وكالة «المهمّات القذرة»، وهي الصفة الملازمة للاستخبارات المركزية في العقود الماضية، خطوة تتضمّن بعداً إعلانياً أكيداً. لم يتوقف الرجل عن التحذير من مغبّة استناد بلاده إلى أدوات «القوة الخشنة» في علاقاتها مع العالم على حساب تلك «الناعمة»، وفي مقدّمتها الدبلوماسية. وهو اعتبر، في كتابه الصادر في 2019، «القناة الخلفية»، أن الدبلوماسية الأميركية، كأداة رئيسة من أدوات السياسة الخارجية، في غرفة العناية الفائقة. برنز كان السفير الأسبق لدى روسيا من عام 2005 إلى عام 2008، ومساعد وزير خارجية للشؤون السياسية بين عامَي 2008 و2011، ونائب وزير الخارجية بين عامَي 2011 و2014. من النادر أن يحظى دبلوماسي أميركي بإطراء كذلك الذي حظي به برنز من قِبَل كبار مسؤولي الإدارة الأميركية ووسائل الإعلام. أجّل هذا الأخير قرار تقاعده مرّتين، بطلب من وزير الخارجية آنذاك جون كيري في المرّة الأولى، وبإلحاح من الرئيس السابق باراك أوباما في المرّة الثانية. بين الإنجازات الأميركية في ميدان السياسة الخارجية التي تُنسَب إليه، دوره في دفع ليبيا إلى إزالة برنامجها العسكري السرّي، وفي بناء قناة التفاوض السرّية الثنائية بين الولايات المتحدة وإيران، والتي سهّلت التوصّل إلى الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني عام 2015. يضاف إلى سلسلة الإنجازات، نجاحه في تحسين العلاقات مع روسيا خلال رئاسة أوباما الأولى، وتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والهند. قال عنه جون كيري إنه «رجل دولة من طراز جورج كينان (السفير الأميركي الأسبق في الاتحاد السوفياتي الذي أسهم في بلورة استراتيجية الاحتواء)، وهو يستحق بامتياز موقعه على اللائحة القصيرة جداً لأساطير الدبلوماسية الأميركية». أوباما، بدوره، أكد أن بيرنز «مستشار حاذق ودبلوماسي استثنائي ملهِم لأجيال من بعده... البلاد أقوى بفضل خدماته». أحد «أساطير» الدبلوماسية الأميركية جزم في كتابه المذكور بأن الأخيرة مهدَّدة بالموت، وأن الحفاظ على موقع الولايات المتحدة كقوة دولية، وثيق الصلة بنجاح مهمّة إنقاذها أو فشلها.
هو يعتقد اليوم أن الفرصة سانحة لإعادة «اختراع» السياسة الخارجية، بعيداً من «أوهام الانعزالية» أو من مواصلة الاعتماد شبه الحصري على القوة العسكرية في سياق دولي شهِد تغيّرات جذرية. يشير برنز، في مقال على موقع «ذي أتلانتك» بعنوان «الولايات المتحدة تحتاج إلى سياسة خارجية جديدة»، إلى أن الانطواء على الذات لا يمكن أن يتناسب مع شبكة المصالح الضخمة الممتدّة عبر العالم للولايات المتحدة، كما أن رفع حدّة الصراعات مع الأطراف الدوليين الآخرين، بما فيهم الصين وروسيا، والدخول في مواجهات مفتوحة معهم قد يُرتّب أكلافاً لا تستطيع بلاده تحمّلها، ومن غير المحسوم أن شعبها مستعدّ لقبولها. يَخلُص الدبلوماسي السابق إلى أن الخيار الأكثر واقعية المطروح على صنّاع القرار هو مقاربة مختلفة تستند إلى ركيزتين: بناء تحالفات متعدّدة، أساساً مع الأوروبيين، تتيح حشداً للقوى ذات المصالح المشتركة، تُمكّنهم جميعاً من التعامل من موقع أفضل مع المنافسين أولاً؛ والتركيز على أن تكون رعاية مصالح الطبقات الوسطى الأميركية في مقدّمة غايات السياسة الخارجية، وهي فكرة كَرّرها بايدن في خطاباته ومقالاته خلال الحملة الانتخابية، ثانياً. ولا شك في أن إدراك عمق الشرخ الداخلي الذي كشفته التطوّرات في الولايات المتحدة هو المحفز الأساسي لمثل هذا الطرح. غير أن تسمية دبلوماسي «ناعم» لقيادة وكالة «القوة الغاشمة» والانقلابات والاغتيالات، يمثّل بذاته إقراراً بأن ضمور القدرات الأميركية بات يتطلّب السعي إلى نسج شراكات وتحالفات مع لاعبين آخرين، مع ما يعنيه ذلك من أخذ لمصالحهم وطموحاتهم بعين الاعتبار.

الاختبار الفنزويلي
ملفّات كثيرة، بعضها شديدة التعقيد، ستسمح بمعرفة عناصر الجدّة التي ستتضمّنها سياسة فريق بايدن الخارجية، بدءاً بالعلاقات مع الصين وروسيا، مروراً بإيران والمنطقة، وصولاً إلى ما تُصنّفه النخبة الأميركية «حديقة خلفية»، أي أميركا الوسطى واللاتينية. جوف رامزي، مسؤول ملف فنزويلا في مكتب واشنطن لشؤون أميركا اللاتينية، وهي مؤسّسة بحثية «ناشطة»، قريبة من بعض أوساط المعارضة الفنزويلية ولكن نقدية لسياسات ترامب، رأى في مقال على موقع «ريسبونسيبل ستايت كرافت»، أن فريق بايدن يستطيع اتباع مقاربة جديدة للوضع في فنزويلا، مختلفة عن تلك الخاصة بفريق ترامب، والتي تَميّزت بطابعها المنفرد، الذي أفضى إلى إقصاء دول «مجموعة ليما» في أميركا اللاتينية - على رغم عدائها للنظام الوطني في البلاد - والاتحاد الأوروبي عن الجهود الهادفة إلى «إيجاد حلّ للأزمة السياسية»، وتمسّكها بخوان غايدو كممثّل شرعي وحيد للمعارضة الفنزويلية. يُصرّ رامزي على أن إشراك هذه الأطراف في الجهود المذكورة، والحوار مع الصين وروسيا لمنع تحوّل فنزويلا إلى ساحة صراع دولي معهما، كفيلان بتأمين الشروط المناسبة لبلورة مسار سياسي يسمح بتحجيم نفوذ الحكومة البوليفارية، وفتح المجال أمام تعزيز موقع المعارضة في مقابلها. بكلام آخر، تبقى الأهداف واحدة، وهي إسقاط الحكومات الوطنية، ولكن تختلف السبل لتحقيقها. وما ينطبق على فنزويلا ينطبق بدرجة أو بأخرى على بقية الملفّات. لكن النخب «المستنيرة» في الإمبراطورية تعي عجزها المتزايد، وتبحث عن شركاء للحفاظ على ما أمكن من نفوذ وسيطرة.