القاهرة | في نيسان/ أبريل المقبل، ستكون إثيوبيا قد أتمّت عملية بناء "سدّ النهضة" التي بدأت منذ عشر سنوات. عقدٌ كامل نجحت خلاله أديس أبابا في تمييع المفاوضات، التي انطلقت باستقبال ودّي لوفد دبلوماسي مصري، وانتهت إلى رفض التوافق حتى على آلية لاستكمال المناقشات. 120 شهراً تراخت فيها القاهرة، مُتأثّرةً بالاضطرابات السياسية تارة، وبالمواقف الدولية تارة أخرى. أمّا الخرطوم، فتَغيّر موقفها أكثر من مرّة مع تقلّبات النظام السياسي، وتبعاً لدرجة التقارب أو التباعد عن النظام المصري. وعلى رغم مرور إثيوبيا بحالة من فقدان الاستقرار طوال تلك السنوات، لم تنجح مصر في استغلال الموقف، ليس بسبب الخلل الدبلوماسي في التعامل مع القضية، ولا بفعل التنازلات الكبيرة التي ما كان لها أن تحدث لو استطاع النظام الحفاظ على مكانته، بل لأن القضية لم تدخل حيّز الانتباه لدى النظام بالفعل سوى قبل أقلّ من عامين. حتى عندما وقّع الرئيس عبد الفتاح السيسي "إعلان الخرطوم" بحضور الرئيس السوداني المخلوع، عمر البشير، ورئيس الوزراء الإثيوبي آنذاك، هايلي مريام ديسالين، لم يكن المشهد سوى جزء من تهدئة الرأي العام.أصل الأزمة يعود بالتأكيد إلى عهد الرئيس الراحل، محمد حسني مبارك، الذي يعتمد السيسي اليوم طريقته في إدارة هذا الملفّ. أمّا مرحلة حكم "الإخوان المسلمون"، والنتائج الكارثية لإذاعة جلسة الرئيس الراحل، محمد مرسي، مع شخصيات سياسية في شأن آلية التعامل مع إثيوبيا، فلم تكن سوى جزء بسيط في سلسلة الأزمات التي زادها السيسي تعقيداً، وخاصة في ظلّ اللغة المهادِنة التي استخدمها في سنوات حكمه الأولى من أجل تحقيق أهدافه السياسية والاقتصادية، قبل بدء البحث في الملفّ الخارجي. وممّا رحم القاهرة أن السدّ تَعثّر لمرّات بسبب مشكلات في البناء وفساد في الإدارة، لكن مصر وقفت تترقّب وتُؤجّل أيّ حديث، لتنتقل دفّة المباحثات في عهد السيسي من التفاوض على بناء السدّ من عدمه ومدى سلامته الإنشائية ومناسبة كمية المياه التي ستُخزّن مع الطبيعة الصخرية التي ينشأ فيها... لتكون تفاوضاً على كمّيات المياه المُخزّنة سنوياً!
سيكون الملء الثاني بعشرة مليارات متر مكعّب من المياه تضاف إلى خمسة سابقة


أمّا السودان، فاعتمد موقفه على مدى التوافق بينه وبين النظام في مصر، من دون أن يكون هناك قرار ثابت وواضح. عند الخلاف مع مصر في أيّ من القضايا، تنحاز الخرطوم إلى أديس أبابا، وهو ما حدث بداية وصول السيسي إلى الكرسي. وفي حال التوافق، يجري التعامل مع "النهضة" على أنه مشروع يُهدّد الخرطوم، في مناورات سعى من خلالها البشير، ومثله حكّام المرحلة الانتقالية الآن، إلى تحقيق أكبر مكاسب ممكنة من المصريين والإثيوبيين على السواء. صحيح أن الموقف السوداني يوصف اليوم بأنه منحاز إلى المصري على خلفية المساعدات التي قدّمتها القاهرة للنظام الانتقالي في الخرطوم، أو بسبب الخلافات بين العسكريين السودانيين ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، لكن السبب الأساسي في ذلك هو خطورة السدّ الفعلية التي بدأ السودان يتحدّث عنها صراحة. وهذا ما يفسّر الموقف الأخير الذي جاء بعد التصرّفات غير المفهومة للقاهرة وأديس أبابا، والمتمثّل في رفض المشاركة في الحوار برعاية جنوب أفريقيا، الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي. هكذا، بات السودان، الذي كان يسير إمّا مع مصر وإمّا مع إثيوبيا، صاحب رؤية مختلفة يتمسّك بها ويُعلّق مشاركته في التفاوض من أجلها.
وتعكس البيانات السودانية الشديدة اللهجة حول رفض التفاوض في دائرة مغلقة، وطلب إحالة الملف إلى الخبراء الأفارقة، الضيق من الابتزاز المصري ــــ الإثيوبي خلال المفاوضات، ورغبة هذين الطرفين في تحقيق مصالحهما من دون النظر إلى مطالب الخرطوم التي تخشى حقيقة ليس من الضرر في السنوات الأولى للملء فقط، بل من مخاطر انهيار "النهضة" الذي سيُغرق البلاد بكمّيات من المياه يستحيل التعامل معها. ومنذ تموز/ يوليو الماضي، والأمور تسير بمزيد من التعقيد، بداية من قرار إثيوبيا تخزين كميات المياه في بحيرة السدّ، وصولاً إلى المماطلة في المفاوضات التي دخلت نفقاً مسدوداً من دون التوصل إلى أيّ حلول أو حتى آليات للتفاوض المستقبلي، ما يعني فرض سيادة القوة وغياب القانون. هكذا، تبني إثيوبيا السدّ بشروطها، وتُخزّن المياه وفق ما تراه مناسباً لها.
في التخزين الأول، أنكرت إثيوبيا البدء في حجب كميات المياه، ثم عادت واعترفت، أمّا اليوم، فالإعلان المبكر واضح: كميات أخرى ستضاف إلى نحو 5 مليارات متر مكعّب تمّ تخزينها العام الماضي، وهذه المرّة ربّما تصل الكمية إلى الضعف، أي 10 مليارات، لتصبح في خزان السدّ نحو 15 مليار متر مكعّب خلال أقلّ من عامين، علماً بأن سعته التخزينية نحو 75 مليار متر مكعّب ترغب أديس أبابا في حشدها على مدار خمس سنوات فقط. كذلك، لا تزال الأعمال الإنشائية في السدّ سارية، وتوليد الطاقة الكهرومائية سيبدأ بالفعل قريباً وبالكميات المتوفرة، في الوقت الذي ستضطر فيه مصر إلى استخدام مخزونها الاستراتيجي من الماء في بحيرة "السدّ العالي" لتجنب المشكلات المتوقّعة في الريّ والزراعة، ولا سيما أن الملء الأول لم يؤثّر في نتيجة كمية الأمطار الزائدة التي تفوق المعتاد، إلى جانب انهيار سدّ الرصوريص في السودان، ما وَفّر كميات أكبر من المياه.
الآن، لم تعد القاهرة تمتلك أيّ وسائل ضغط على إثيوبيا، وخاصة بعدما صارت مسألة السدّ واحدة من القضايا الأساسية في الحياة السياسية الإثيوبية. إذ إن تعثّر المفاوضات يرتبط، في جزء منه، بموعد الانتخابات البرلمانية الإثيوبية التي أُرجئت مرّات عدّة نتيجة جائحة كورونا، وأيضاً بتخوّف الائتلاف الحاكم من التوقيع على اتفاقات ملزمة تؤخَذ عليه من المعارضة. لكن مصر لا ترغب في مزيد من التصعيد، لأنها لا تملك عملياً أيّ حلول. وبخلاف أزمة الثقة بين القاهرة وأديس أبابا، هناك مزيد من الحساسيات القديمة المتراكمة على مدار عقود، فضلاً عن الاضطرابات الموجودة في القرن الأفريقي حيث تشهد المنطقة إعادة صياغة للعلاقات والأنظمة. الأسوأ أن المفاوض المصري أخفق في إظهار الخلاف على أنه فنّي لا سياسي، فحتى الخرطوم التي تدعم الموقف المصري حالياً أكدت مرّات أن الأزمة سياسية ولن تُحلّ بالخبراء فقط أو وزراء الخارجية والريّ وحتى مديري المخابرات الذين يتلقون التعليمات من رؤسائهم ولا يستطيعون اتخاذ قرار بمفردهم، وهو ما أعاق الوساطات كافة، بداية من البنك الدولي، مروراً بالوساطة الأميركية وأخيراً الاتحاد الأفريقي.

تحرّض الدبلوماسية الإثيوبية دول حوض النيل على استعداء مصر والمضيّ في بناء السدود


في المقابل، نجحت إثيوبيا في اتّباع تفاوض قائم على فرض صياغة جديدة لإدارة العلاقات المائية مع دول الجوار، وخاصة مصر التي فرضت لعقود نفوذها على القارة، فأديس أبابا مستفيدة من أخطاء نظام مبارك وتجاهله القارة السمراء والتعالي عليها، مروراً بالتراخي المصري في حسم القضية منذ سنوات. ومع النجاح الإثيوبي في فرض بناء السدّ وفق الشروط الهندسية المناسبة للدولة ومن دون أيّ معايير تضمن سلامته لدولتَي المصب، السودان ومصر، تكون أديس أبابا قد تَخلّصت من الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي تضمن لمصر حقوقاً تاريخية في النيل، بل هي تُشجّع دولاً أخرى من حوض النيل على خطوات مماثلة، وخاصة مع الدور المتزايد لإثيوبيا في القرن الأفريقي. يشار هنا إلى أن الدبلوماسية الإثيوبية تمتلك ميراثاً مشتركاً مع دول حوض النيل يحمل عدائية لمصر على مدار عقود، وهو ما تسعى إلى توظيفه اليوم على النحو الأمثل، على رغم محاولات الدبلوماسية المصرية إعادة بناء الثقة والتدخل من أجل تحقيق مزيد من التفاهم لخلق قنوات اتصال تنهي المحاولات لاستغلال مياه النيل سياسياً.
الأسوأ أن إثيوبيا لا تخفي رغبتها في بناء مزيد من السدود، واستقطاب السودان إلى جوارها بوعود عدّة في مقدمتها الكهرباء التي سيحصل عليها من السدّ، مع استخدام لغة عدائية واضحة ضدّ مصر، لكن الأخيرة لم يعد أمامها اليوم سوى تفنيد المزاعم الإثيوبية التي تقول إن السدّ يهدف إلى التنمية وتوليد الطاقة الكهربائية، فيما تتّهم إثيوبيا، مصر، بأن لديها مشكلة في استخدام المياه وترشيدها. المؤكد أن كميات المياه التي ستصل مصر خلال السنوات الخمس المقبلة لن تكون كافية، لكن التداعيات لا يمكن حسابها بدقة أو توقُّعها، وخاصة أن النظام المصري الذي يستطيع استخدام كميات كبيرة من خزان "السد العالي" سيكون رهينة قرارات سياسية إثيوبية منفردة، وسيحتاج إلى دعم دولي من أجل ممارسة ضغوط والدخول في مساومات للحصول على حق "المحروسة" في المياه، وهو أمر بعيد المنال في حال كانت إدارة جو بايدن بالمرصاد.



أديس أبابا تطلب «تجزئة» التفاوض


بينما وصلت المفاوضات بين مُمثّلي إثيوبيا والسودان ومصر إلى طريق مسدود قبل أيام بعد إعلان فشل الاتفاق على آلية لاستكمال الجلسات، تسعى إثيوبيا إلى فصل مسألة ملء السدّ عن عملية تشغيله، وهو البند المقترن بالرغبة في إطالة أمد المفاوضات وتقسيمها، بعدما نجحت سابقاً في إمرار بناء جسم السدّ من دون موافقة دولتَي المصب. وترفض أديس أبابا، حتى الآن، التباحث في آلية لفضّ النزاعات أو توقيع تعهّدات تُقيّدها عن فعل ما تراه مناسباً، وهو ما ترفضه القاهرة والخرطوم حالياً بوصفه خطراً يهدّدهما، فيما ترفض الأخيرة حتى الآن مقترح تقسيم التفاوض ليكون الملء في مباحثات منفردة والتشغيل في مباحثات أخرى، مطالبةً بضرورة توحيد التفاوض ووضع جميع النقاط الخلافية على الطاولة.