أعلنت الجمهورية الإسلامية، أخيراً، أنها استأنفت تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة، في مخالفة علنية للاتفاق النووي الذي ينصّ على ألّا تزيد نسبة التخصيب المسموح بها على 3.67%. يمثّل هذا القرار الإيراني، المدروس بعناية، تحدّياً مهمّاً وخطيراً للرئيس الأميركي المنتخَب، جو بايدن، الذي يستعدّ لتسلّم مهامّ منصبه في العشرين من الشهر الحالي. وهنا، يُطرح السؤال: ماذا سيفعل تجاه هذا التطوّر؟ الواقع يقول إنه ليس بإمكانه تجاهل الخطوة الإيرانية وكأن شيئاً لم يكن، ذلك أن خطوات أخرى قد تتبعها. ولكن أيدي بايدن مقيّدة، وخياراته محدودة. فالرئيس الذي تشارف ولايته على الانتهاء، دونالد ترامب، وصل إلى الحدّ الأقصى، عبر سياسة الضغوط الاقتصادية والسياسية والعسكرية على إيران، بحيث إنه لم يعد أمام بايدن المزيد ممّا يمكن فعله لردع طهران عن الاستمرار في زيادة خطوات التخصيب النووي. المشكلة أمام بايدن كبيرة جدّاً، لأن التفاهم مع إيران لن يكون سهلاً، ولا سيّما أن ما تضعه الأخيرة من شروط وطلبات تعني تلبيته - عملياً - "إعلان الندم" أو شبه الاستسلام من جانب الولايات المتحدة في ما يتعلّق بالاتفاق النووي. إيران تعمل وفق خطّة عمل واضحة، وتتّخذ قراراتها بهدوء وبعد تحليلٍ عميق وواقعي للخيارات والاحتمالات. ولعلّ أهمّ معالم خطّة العمل هذه، إبراز عناصر الصمود، وحجم الكفاءة والقدرة العسكرية والدفاعية، ومدى التقدّم التكنولوجي. والهدف واضح: ردع أميركا (ومعها الكيان الصهيوني) عن مجرّد التفكير في الحلّ العسكري أو مهاجمة إيران مباشرة، وأيضاً الضغط على الولايات المتحدة عن طريق خطوات تصعيدية تدريجية بطيئة، ولكنها متواصلة في الملف النووي؛ ففي خطابه التلفزيوني، قبل بضعة أيام، أوضح المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، آية الله علي خامنئي، ما ستكون عليه سياسة بلاده في عهد بايدن، وقال: "لا نُصرّ على عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق، ولا نستعجل ذلك، ولكن لنا مطلبٌ منطقيٌ هو رفع العقوبات". ووصف خامنئي إقدام إيران على خطوة زيادة تخصيب اليورانيوم بـ"القرار السليم والمعقول"، مشيراً إلى أنه "عندما لا يلتزم الطرف الآخر بمعظم بنود الاتفاق، لا معنى لالتزامنا"، مضيفاً أنهم "إن عادوا عُدنا". من جهته، ردّد وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، كلام المرشد بطريقة أخرى، مؤكداً أن على الولايات المتحدة "التزامات يجب أن تنفّذها".
ترفض طهران مجرّد إعلان نوايا أو وعود وتصريحات ودّية من جانب واشنطن


خلاصة الموقف الإيراني، كما عبّر عنها خامنئي وظريف، هي أن على أميركا إلغاء جميع العقوبات الاقتصادية التي فرضها ترامب على طهران (ذهب بعض المسؤولين إلى حدّ المطالبة بتعويضات)، وإعلان عودتها الكاملة إلى الالتزامات الموجودة في الاتفاق النووي، وبعد ذلك كلّه تنظر إيران في إمكانية وقف خطواتها التصعيدية في مجال التخصيب. بمعنى آخر، فإن طهران ترفض قبول مجرّد إعلان نوايا، أو وعود وتصريحات ودّية من جانب واشنطن، وتصرّ على خطوات ملموسة وحقيقية، قبل أيّ إعادة نظر. ومن نافلة القول إن أيّ شروط إضافية قد يطرحها بايدن وفريقه، مثل قيود على البرنامج الصاروخي أو على دور إيران في المنطقة، لن تقبل هذه الأخيرة مجرّد النظر فيها.
لقد صمدت إيران طوال أربع سنوات من رئاسة ترامب وسياسته العدائية القاسية والفاحشة ضدّها، وتحمّلت المعاناة الاقتصادية الشديدة، كما تحدّت التهديدات والضغوط العسكرية. وهي لم تتجاوز كلّ ما تقدّم بنجاح فقط، بل حقّقت تقدّماً في وضعها الإقليمي، هي وحلفاؤها. ومن هذا المنطلق، هي الآن تشعر بالقوة في مواجهة الرئيس الأميركي الجديد، وبالقدرة على أن تصبر لفترة أطول حتى تعود واشنطن إلى "رشدها" وتقدّم التنازلات المطلوبة. وفي نهاية المطاف، وبغضّ النظر عن الطرق والأساليب، فإن أميركا لا تريد أن ترى إيران مسلّحة بقنبلة نووية. وإن كانت هذه الأخيرة تؤكّد عدم نيّتها الوصول إلى حدّ صنع قنبلة كتلك، ولكن تبقى الفكرة موجودة لدى بايدن وحلفائه، وسوف يسعون لتجنّبها بكلّ وسيلة ممكنة... وإيران تعرف ذلك.