أقل ما يمكن به وصفُ الأصداء حول بدء إيران رفعَ تخصيب اليورانيوم إلى درجة 20% لدى مؤسسات التقدير والقرار في تل أبيب بـ«المقلقة». فهو وضعهم أمام مسار متواصل من الواضح أنه سيتحول إلى مأزق حقيقي. فلا إسرائيل قادرة على التسليم بمآلاته، ولا تملك خيارات فعلية لإحداث تغيير جذري في هذا المسار، كما لم تنجح رهاناتها على استراتيجية إدارة دونالد ترامب في إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية أو إخضاعه، وتواجه أيضاً قرار الإدارة الجديدة العودة إلى الاتفاق النووي.مع ذلك، يمثّل ارتقاء إيران في خطواتها النووية تجسيداً لقوة الردع في مواجهة التهويل الأميركي الإسرائيلي، خاصة أن رفع التخصيب إلى 20% ينطوي على رسائل مدوية في عواصم القرار الدولي. وترتقي المخاوف الإسرائيلية من أن استمرار اندفاعة إيران في هذا المسار سوف تعزّز موقعها في أي مفاوضات مستقبلية مفترضة. هذا المستجد دفع إلى طرح علامات استفهام كبرى حول جدوى السياسة التي اتبعتها إسرائيل وإدارة ترامب في المواجهة على أكثر من صعيد، ومن موقع المقارنة بين ما كانت عليه إيران بداية ولاية ترامب، وما عليه الآن في القدرات العسكرية والصاروخية والنووية.
لا تنبع مخاوف تل أبيب من شكوك جدية لديها إزاء نيات إيرانية لإنتاج أسلحة نووية، لكنها حريصة على أن تُركِّز على هذا الاتهام في خطابها الرسمي والإعلامي من باب التحريض المدروس والهادف، وهو ما كرّره بنيامين نتنياهو بعد الخطوة الإيرانية الأخيرة: «هذا خرق سافر ومطلق، والتفسير الوحيد لذلك هو اعتزامها إنتاج الأسلحة النووية». مع ذلك، لديهم مخاوف جدية من تقليص المسافة الفاصلة عن إنتاج الأسلحة، حتى لو كانت إيران لن تنتجها، وهذا من أهم أوراق الضغط التي تملكها الجمهورية في مواجهة الضغوط الأميركية وتناغم الدول الأوروبية معها. ولهذه المسألة جوانب أخرى علمية واقتصادية تتخوف إسرائيل من تداعياتها، ومن هنا القضية النووية قائمة بذاتها وجدية من منظور الأمن القومي الإسرائيلي، وهي أيضاً شعار تتلطى خلفه للتحريض دولياً وإقليمياً.
كان لرفع مستوى التخصيب إلى 20%، في مسار متدرّج ومدروس رداً على العقوبات، وقعه المدوي في الساحة الإسرائيلية؛ فهي خطوة تنطوي على أبعاد استراتيجية تُلخص جدوى السياسات السابقة ضد إيران، وتكشف عن رسائل تتصل بالظروف الدولية والإقليمية، وتؤشر على مآلات تتصل مباشرة بالأمن القومي الإسرائيلي. فقد بدَّدت هذه الخطوة الرهان الإسرائيلي ــ الأميركي على ردع إيران عن تجاوز بعض السقوف، على أمل إبقائها مقيدة ببنود الاتفاق في الوقت الذي يشنّ عليها الطرف المقابل هجمات اقتصادية هي الأخطر منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية. في هذا الإطار، دعا وزير الخارجية الإسرائيلي، غابي أشكنازي، المجتمع الدولي إلى رفض التسليم بما سمّاه «التحدي الإيراني»، والنظر إلى «الخطوات التي أقدمت عليها في رفع التخصيب كخط أحمر يستوجب رداً حازماً وفورياً».
النظرية التي روَّج لها نتنياهو ومعه كل معارضي الاتفاق في الداخل الأميركي تستند إلى أن إيران لن تجرؤ على تجاوز الخطوط الحمر في ما يتعلق بالبرنامج النووي، فيما يمثّل رفع التخصيب إلى درجة 20% نقطة تحول مفصلية في هذا المسار. وأكثر ما برزت معالم هذه التقديرات المُقلِقة في تقديرات معاهد الأبحاث والمواقف والتوصيات التي تدعو إلى الاستفادة من مرحلة الرئيس باراك أوباما، خاصة أن نتنياهو وكل معارضي الاتفاق يخشون من مفاعيل الخطوات الإيرانية المتدرجة التي عبرت سقف 20% على تقديرات الإدارة المقبلة برئاسة جو بايدن وخياراتها.
الخشية التي يُعبّر عنها بأشكال مختلفة في تل أبيب أنه في الوقت الذي يتواصلون فيه ويضغطون من أجل تبنّي إدارة بايدن مبدأ التفاوض حول القدرات الصاروخية الإيرانية ودعم طهران حلفاءها في البيئة الاستراتيجية لإسرائيل، كشرط للعودة إلى الاتفاق، تعمد الجمهورية الإسلامية إلى فرض وقائع جديدة يتحول معها كبح الاندفاعة النووية إلى أولوية مُلحّة لدى عواصم القرار على حساب قضايا أخرى. ومع أن الخطاب الرسمي الإسرائيلي يحاول التركيز على اتهام إيران بأنها تنوي إنتاج أسلحة نووية، فإن الخبراء والمعلقين تناولوا القضية من جوانب أكثر واقعية. من هؤلاء رئيس «معهد أبحاث الأمن القومي»، اللواء عاموس يادلين، الذي رأى أن طهران «تراكم أوراقاً نووية» تمهيداً للمفاوضات مع بايدن. في الاتجاه نفسه، أتت تحليلات عدد من المعلقين الذين تناولوا هذا المستجد المتوقع أن يفرض نفسه على جدول اهتمامات المؤسّستين السياسية والأمنية والجهات ذات الصلة.
في مواجهة الرد الإيراني المضاد الذي لم تنجح إدارة ترامب في منعه، ووسط المخاوف من مآلات هذا المسار، تبرز مسألتان لن يكون بالإمكان تجاهلهما في تل أبيب: الأولى تتصل بتقييم الاستراتيجية التي انتهجها ترامب بتحريض من نتنياهو وقامت على أساس الخروج من الاتفاق وسياسة الضغوط القصوى وتداعياتها على المجالات العسكرية والصاروخية والنووية والإقليمية، والثانية تنطلق من الوقائع التي أفرزتها الاستراتيجية السابقة، وتتصل بالخيارات التي ستنتهجها القيادة الإسرائيلية مقابل إدارة بايدن وفي مواجهة هذه المستجدات.
في ما يتعلق بالمسألة الأولى، أجملها اللواء يادلين بالقول إن إيران صارت في نهاية ولاية ترامب أقرب إلى القدرة على إنتاج أسلحة نووية ممّا كانت عليه بداية ولايته. كذلك، عمد رئيس وزراء العدو الأسبق، إيهود باراك، في مقابلة مع القناة الـ12 في التلفزيون الإسرائيلي، إلى المقارنة بين ما كانت عليه إيران نووياً وصاروخياً «حين هجم نتنياهو على أوباما »، و«أين هم اليوم: يتبين أن النتيجة الوحيدة لهذا الهجوم أن السيطرة مقابل إيران ضعفت، وهم في مكان أكثر تقدماً من ناحية إنتاج الصواريخ وأيضاً تخصيب اليورانيوم». كما شمل نقد باراك نتائج الاستراتيجية الإسرائيلية في مواجهة إيران في سوريا.
أمام هذه التحديات، تجد إسرائيل نفسها ملزمة بدراسة خياراتها انطلاقاً من الوقائع المستجدة ومعادلات القوة الجديدة، وهو ما كشفه المعلق العسكري في القناة الـ13، ألون بن ديفيد، إذ لفت إلى «سجال عميق في إسرائيل، وفي القيادة الأمنية، هل يسيرون كما ساروا ضد أوباما أم إلى جانب بايدن ومحاولة تحقيق اتفاق معدل؟». مع ذلك، الأكثر دقة هو إجمال الصورة المتشكلة لدى مؤسسة القرار، وهي أن استراتيجية إسرائيل في ظل إدارة أوباما تُوِّجت بالاتفاق النووي (2015) الذي انتزع من الدول العظمى إقراراً بتحوّل إيران إلى دولة نووية، لكنه لم يؤد إلى رفع العقوبات عنها. ثم راهنت تل أبيب على سياسة ترامب التي تسبّبت في أزمة اقتصادية غير مسبوقة في الجمهورية، لكنها لم تُخضعها ولم تردعها، وجسَّد ذلك فشل الاستراتيجية التي روَّج لها نتنياهو بأن الجهة الوحيدة القادرة على ردع إيران هي الولايات المتحدة، وهو ما تبدّد في ولاية ترامب.
نتائج هذا الفشل نووياً (رفع درجة التخصيب) وسياسياً برزت في رفض جلوس إيران إلى طاولة مفاوضات مع ترامب وفق شروطه، وصاروخياً (تطوير قدراتها) وإقليمياً (استمرار دعم حلفائها بقدرات نوعية لم تكن موجودة خلال الاتفاق النووي). كل ذلك يضع القيادة الإسرائيلية أمام رهانات مُفضَّلة لكن ثبت أنها فاشلة، وبدائل مكلفة تخشى من أن تفرضها الظروف الدولية ومعادلات القوة الإقليمية.