لندن | حين كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة مساءً في آخر أيّام عام 2020، معلنة خروج المملكة المتحدة رسمياً من عضويّة الاتحاد الأوروبي، كان متظاهر وحيد ارتدى ألوان الاتحاد الأوروبي يتجوّل في ساحة البرلمان الخالية - بسبب الحظر الاحترازي من فيروس «كورونا» - ليحتجّ على ما يعتبره نصف البريطانيين انتحاراً سياسيّاً واقتصادياً أقدمت عليه الطبقة الحاكمة. منذ تلك اللحظة، شُرع في تطبيق إجراءات تقنيّة ولوجستيّة جديدة في ما يتعلّق بانتقال الأفراد والبضائع والأموال بين الجانبين، بعدما لم تعد بريطانيا جزءاً من السوق الأوروبيّة الموحّدة والاتحاد الجمركي لدول التكتّل. وأفادت مصادر على نقطة العبور بين بريطانيا وفرنسا، بأنّ أقلّ من 800 شاحنة عبرت تلك الليلة مقارنة بمعدّل 10 آلاف شاحنة يومياً في الأيّام العاديّة، ما يعكس تخوّف شركات الأعمال من طبيعة تلك الإجراءات الجديدة.
ومع أنّ لندن وبروكسل عبّرا عن ارتياحهما للتوصّل إلى اتفاق اللحظة الأخيرة لضمان حدٍّ أدنى من النظام أثناء تفكيك علاقة متشابكة استمرت لما يقرب من ثلاثة عقود، إلّا أنّه لا عاقل يُنكر أنّ الخسارة مسّت الطرفين معاً على المدى القصير، ليس فقط لأنّ الاتفاق - رغم صفحاته الـ1200 - متخم بالجوانب الغامضة التي قد تجلب حتماً خلافات مستقبلية، بل لأنّه يضعف تلقائيّاً من مواقف الجانبين ووزنهما العالمي. فالتكتّل بخسارته إحدى دوله المحوريّة الثلاث (إلى جانب ألمانيا وفرنسا) بما تمثّله من ثقل اقتصادي (20% تقريباً من حجم اقتصاده) وعمق عسكري وتقاليد دبلوماسيّة وليبرالية راسخة، سيجد أنّه في موقف تفاوضي أضعف في أيّ مفاوضات تجاريّة، بما فيها مع الحليف الأميركي المهيمن على شؤون القارّة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية (1945). ويأتي ذلك بينما تنحرف بوصلة بعض أعضاء الاتحاد، كهنغاريا وبولندا، نحو الحكم الفاشي، وتتعثّر دول أخرى مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال اقتصادياً، وتتحوّل بشكل متزايد إلى عبء على بقيّة الأعضاء.
مع ذلك، فإنّ هذه الخسارة مهما كبرت أوروبيّاً، تظلّ أقل من التأثيرات السلبيّة المتوقّعة على الجانب البريطاني الذي سيكون بحاجة ماسّة إلى إعادة هيكلة اقتصاديّة شاملة، بعدما سمحت العضوية في الاتحاد لثلاث عقود متتابعة ببناء قاعدة متخصّصة من قطاعات إنتاجيّة مختارة (ماليّة وتقنيّة وسياحيّة وخدماتيّة) تتكامل مع بقيّة الدول الأعضاء. ومن المتوقع أن تصبح البلاد ضعيفة بنيوياً خارج التكتّل، بعدما فكّكت الحكومات النيوليبراليّة المتعاقبة قواعد التصنيع الثقيل والزراعة الكثيفة والتعدين، وأصبحت تعتمد على الاستيراد، وبشكل خاص من الاتحاد الأوروبي (نحو 52% من التجارة البريطانية مع العالم). كذلك، ستفقد صناعات الخدمات المالية الكبرى والسياحة البينيّة والتعليم العالي كثيراً من جاذبيّتها عند الزبائن الأوروبيين (450 مليوناً من البشر)، من دون توفّر بدائل عملية فورية لتعويض تراجع مساهمتها في الاقتصاد الكلّي، وسيجد جيل جديد من البريطانيين الشباب نفسه محروماً عملياً من فرص كانت لا نهائيّة أمامهم للتعلّم والعيش والسفر والعمل، مع التمتّع بحقوق المواطنة كافة عبر اتساع القارة.
وإذا كان اندفاع الطبقة البريطانيّة اليمينيّة الحاكمة لإطلاق مشروع إنهاء عضوية لندن في الاتحاد، قد نشأ منتصف العقد المنصرم في مناخ ردّ الفعل على تدفّق المهاجرين على أوروبا، وسيطرة التوجّه الانعزالي على الإدارة الأميركية أيّام دونالد ترامب، فقد تغيّرت الظروف الموضوعيّة بشكل حاسم خلال العام الماضي. انحسرت موجات الهجرة الضخمة وعادت إلى مستوياتها الاعتيادية السابقة، فيما سيترك ترامب منصبه خلال أسبوعين لمصلحة إدارة جديدة تميل إلى الحفاظ على التحالفات واعتماد برلين شريكاً إقليميّاً - بدلاً من لندن. لذا، بالتوازي مع ما تقدّم، يذهب أيّ أمل في التوصلّ إلى اتفاق تجاري سريع بين الولايات المتحدة وبريطانيا، يعوّض الأخيرة عن التراجع المتوقّع لحجم التبادل مع أوروبا.
ومع ذلك، فإنّ الاتحاد الأوروبي يبدو أقدر على التعافي في المدى المتوسط، إذ إنّ من المتوقع أن تسمح صدمة خروج بريطانيا بمزيد من التناغم بين الأعضاء الباقين (27)، وترفع من طموحاتهم لتوسيع أوجه التعاون المشترك تجاه مزيد من الفدراليّة التي عارضتها لندن دائماً. وربّما أسهم ذلك في فتح باب توسيع عضوية الاتحاد مجدداً، وتقوية علاقة برلين - باريس التي هي بمثابة محرّك قاطرة القارة. وقد استغلّت بروكسل انسحاب بريطانيا، لتقرّ صندوقاً استثنائيّاً (بقيمة 918 مليار دولار أميركي) لمساعدة القارّة على التعافي من جائحة «كوفيد - 19»، في خطوة رمزيّة كبيرة تجاه منح الاتحاد مكانة سيادية، بحيث يمكنه الآن الاقتراض مباشرة من دون المرور بالحكومات المحلّية، الأمر الذي لم يكن ممكناً نظريّاً لو بقي البريطانيون وسعارهم الاستعراضي بشأن «استعادة السيطرة من بروكسل».
يبدو الاتحاد الأوروبي أقدر على التعافي في المدى المتوسط


في المقابل، ستجد لندن صعوبات جمّة، على المدى المتوسط، ليس اقتصادياً فحسب، بل في الاحتفاظ بوحدة المملكة كنظام سياسي اتحادي مستمر منذ 300 سنة. ولعل أوّل المغادرين سيكون إقليم اسكتلندا، الذي سارعت وزيرته الأولى، نيكولا ستروجين، إلى التأكيد أنّ أدنبرة ستعود قريباً إلى الاتحاد الأوروبي، وهو أمر سيدفع بالضرورة قضية الاستقلال إلى قلب الحدث. أمّا مسألة إعادة توحيد إيرلندا عبر تحرّر إقليم إيرلندا الشمالي من هيمنة لندن، فقد أصبحت بحكم الأمر الواقع بالنظر إلى الاستثناءات التي سيتمتّع بها الإقليم لناحية العلاقة بالاتحاد الأوروبي، فيما ينصّ الاتفاق الموقّع مع الاتحاد على بقاء إقليم جبل طارق - أصغر أقاليم المملكة المتحدة - ضمن منطقة شينغن الحاليّة التي تسمح بتنقل الأوروبيين بدون جوازات السفر، وبرعاية إسبانيّة.
الصورة على الأرض في لندن قاتمة للغاية، رغم الاحتفال الفارغ من قبل صحف اليمين ورموزه بما يزعمون أنّه «الاستقلال»، فيما البلاد تقف على حدود كارثة، بسبب سوء إدارة الحكومة لجائحة «كوفيد - 19». وتقول استطلاعات للرأي أجريت عشيّة رأس السنة، إنّ حزب «المحافظين» الحاكم - يمين الوسط - سيخسر السلطة والأغلبيّة في مجلس العموم إذا أُجريت الانتخابات الآن، وهو ما سيحدث غالباً في عام 2024 - موعد الانتخابات العامّة العاديّة المقبلة. لكن حتى ذلك الحين، سيكون جيل كامل من الإنكليز قد دفع غالياً ثمن موافقته على تولية طاقم «المهرّجين» الحالي هذا مقاليد السلطة، منكفئاً على نفسه في جزيرة طرفيّة صفتها الأهم أنّها تقع بين فرنسا وإيرلندا لا أكثر.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا