تتزايد دعوات صنّاع السياسة في الولايات المتحدة إلى ضرورة مراجعة استراتيجية الدفاع الأميركية السائدة منذ نهاية الحرب الباردة، في ضوء الانحدار الذي تشهده الإمبراطوية، وجلاء عصرٍ جديد من المنافسة بين القوى العظمى بفعل الصعود الصاروخي للصين، وروسيا بدرجةٍ أقلّ. هذه الخلاصات أوردها محلّل السياسة الدفاعيّة، أندرو كريبينفيتش، في مقالة نُشرت، أخيراً، في مجلّة "فورين أفيرز" بعنوان "اكتساب القوّة أثناء الانحدار"، وفيها يدعو الإدارة المقبلة، برئاسة جو بايدن، والتي ستتولّى منصبها في وقتٍ يراه "حرجاً" بالنسبة إلى الجيش الأميركي، إلى إدراك المتغيّرات وضرورة صياغة السياسات استناداً إليها.وعلى رغم إشارته إلى القدرات الهائلة التي طوّرتها روسيا وخصوصاً في الحرب الإلكترونية، وإلى كون قوّاتها التقليدية تُعدُّ أكثر من مجرّد نظير لقوّات دول خطّ المواجهة في "حلف شمالي الأطلسي" (تمتدّ من إستونيا إلى بلغاريا)، إلّا أن الصين، بوصفها قوّة عظمى اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية، تشكّل التهديد الأكبر للولايات المتحدة. ويرى كريبينفيتش أن "الحزب الشيوعي" الصيني عازم على بناء دولة "أورويليّة" في الوقت الذي يُقدِّم فيه نموذجاً سياسياً واقتصادياً يتفوّق على ذلك الذي تقدّمه الولايات المتحدة، محذراً من مساعي العملاق الآسيوي إلى الهيمنة على غرب المحيط الهادئ. من هنا، تُعتبر مهمّة تهييء الجيش الأميركي لصدّ أيّ عدوان صيني أو روسي معقّدة، بسبب متغيّر رئيسي: التراجع النسبي للقوّة الأميركية. على هذه الخلفية، يدعو إدارة بايدن للاستفادة إلى أقصى درجةٍ ممكنة من القدرات والتحالفات العسكرية الأميركية، بهدف تضييق الفجوة بين الولايات المتحدة وخصومها. لكن ذلك يستلزم مراجعة الاستراتيجية الدفاعية للإدارة المقبلة، بعد إدراك صنّاع السياسة في واشنطن حقيقة أن بلادهم فقدت مصدرَين رئيسيين كانت تمتلكهما في ما مضى للتفوّق على القوى الأخرى، هما: الموارد المادية، وتفوّق تقنياتها.
تبدو الميزة الاقتصادية النسبية للولايات المتحدة عند أدنى مستوياتها منذ نهاية القرن التاسع عشر. وفي ربطه بين الناتج المحلي الإجمالي والبراعة العسكرية، يقول كريبينفيتش: "كلّما نما الاقتصاد، زادت قوّة الجيش". في الحالة الصينية، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي حوالى ثلثي نظيره الأميركي، وهذا أكبر بكثير من أي قوّة أو مجموعة قوى واجهتها أميركا خلال القرن الماضي (يمثّل الناتج المحلي الإجمالي الصيني وذاك الروسي، حوالى ثلاثة أرباع الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة). ففي خلال الحرب الباردة، وبينما كان الأميركيون يعيشون في ظلّ أوضاع مالية أفضل، أنفقت أميركا ​​أكثر من 6% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً على الجيش، بينما تخصّص، اليوم، ما يقرب من نصف هذه النسبة من هذا الناتج للدفاع. ومن هنا، يعتبر الكاتب أن هذه الدينامية ستزيد من صعوبة زيادة التمويل الدفاعي لمواجهة التهديدات المتزايدة التي تشكّلها الصين وروسيا.
أمّا لجهة حلفاء الولايات المتحدة، فيعتقد كريبينفيتش أن على هؤلاء أن يساعدوا قليلاً في تعويض النقص في الإنفاق الدفاعي، ولا سيما أن واشنطن كانت قد استفادت بشكل كبير من تحالفاتها في الماضي (الحربَين العالمية الثانية والباردة). إلّا أن الحلفاء نزعوا، في العقود الأخيرة، سلاح جيوشهم، حتى باتوا غير قادرين على القيام بأيّ عمل مستقلّ له أهمية، فيما لم تنجح الإدارات الأميركية المتعاقبة، سواء كانت ديموقراطية أو جمهورية، في استدراجهم إلى تعزيز دفاعاتهم.
ومثلما تلاشت الميزة الاقتصادية للولايات المتحدة وقوّة حلفائها، فقد تلاشت أيضاً ميزتها التكنولوجية. بعد الحرب العالمية الثانية، قادت أميركا الطريق نحو تطوير أسلحة نووية، وغواصات تعمل بالطاقة النووية، وأقمار اصطناعية للاستطلاع والاتصالات وغيرها. لكن العقد الماضي شهد تآكلاً في الميزة التكنولوجية للجيش الأميركي. والشيء نفسه ينطبق، بحسب الكاتب، على "البراعة التكنولوجية الأميركية ككلّ". فالدولة التي أرسلت، قبل نصف قرن، بعثات مأهولة إلى القمر، انتهى بها الأمر إلى إرسال روادها إلى الفضاء عبر صواريخ روسية. كذلك، يلفت إلى غياب التفوق الأميركي الواضح في التقنيات "التجارية الناشئة".
مثلما تلاشت الميزة الاقتصادية للولايات المتحدة وقوّة حلفائها، فقد تلاشت أيضاً ميزتها التكنولوجية

على أي حال، لا يعني هذا أن الولايات المتحدة لم تَعُد قوّة في مجال التكنولوجيا المتقدمة، بل إن ريادتها تقلّصت، حتى بات احتمال العودة إلى نوع الهيمنة الذي تمتّعت به على مدى العقود الثلاثة الماضية، أو خلال حقبة الحرب الباردة، "ضئيلاً". مردّ ذلك إلى استنزاف جيشها ومعداتها العسكرية طوال 30 عاماً من الحروب في العراق وليبيا، وحربها على المنظمات الإرهابية و"حركات التمرّد" في أفغانستان والشرق الأوسط. لكن الأولوية باتت في مكان آخر، إذ يتوجب على الجيش الأميركي الاستعداد لمنافسة الصين وروسيا. ويشير، في هذا السياق، إلى أن فائدة المعدات التي استثمرتها الولايات المتحدة لخوض حروبها الأخيرة (مثل المركبات المصفّحة المقاومة للعبوات الناسفة (MRAPs) والطائرات المسيّرة) تكاد لا تُذكر مقارنةً بالقدرات الصينية والروسية الحديثة، وخصوصاً بعدما توسّعت الحرب من مجالَين، هما: الأرض والبحر، إلى ستة مجالات تشمل الهواء، وتحت سطح البحر، وقاع البحر، ,الكهرومغناطيسية، والفضاء، والفضاء الإلكتروني. ويستخلص كريبينفيتش أنه نظراً إلى محدودية الموارد في هذه المجالات، "يحتاج الأميركيون إلى تحديد أيٍّ من هذه المجالات هي الأهم للسيطرة على العدو". في هذا الإطار، يرى الكاتب أن من المحتمل أن تحتاج واشنطن إلى جيش أكبر لمنافسة بكين وموسكو. لكن الأهم من ذلك، أنها تحتاج إلى "نوع مختلف من الجيش، يأخذ في الحسبان البيئة الأمنية المتغيرة". ويرى أنه يجب على أميركا تركيز جهودها بشكل أساسي على استقرار التوازن العسكري مع الصين، وخصوصاً لناحية اكتشاف كيفية ردع العدوان الصيني في غرب المحيط الهادئ، والنجاح في الدفاع عن المنطقة إذا فشل الردع، مع تجنب أي تصعيد قد يؤدي إلى استخدام الأسلحة النووية.
في المحصلة، يستبعد كريبينفيتش الحرب مع الصين أو روسيا في المدى القريب. لكنه يرى أن المواجهة الأكثر عدائية في المستقبل تظلّ قائمة، وخصوصاً إذا لم تستطع واشنطن الحفاظ على توازن عسكري مستقرّ في غرب المحيط الهادئ أو أوروبا. من هنا، يشدّد على وجوب "صياغة وتنفيذ استراتيجية للحفاظ على المصالح الرئيسية لواشنطن، في عالمٍ تغيّر بشكل جذري في بضع سنوات فقط. ويختم قائلاً: "مع تآكل نقاط القوّة للولايات المتحدة، ليس هناك وقت نضيعه".

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا