سِجلّ الفشل الأميركي في الشرق الأوسط، على مدى العقدين الماضيين، طويل ومثير للخوف. الكارثة الأكثر وضوحاً كانت في غزو العراق عام 2003. لكن المشكلة بدأت قبل فترة طويلة من هذا الفشل الذريع. خَلّف انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، و"الموجة الثالثة" من التحوّل الديموقراطي حول العالم، والثروة التي ولّدتها العولمة، تطوّرات إيجابية، لكن كلّ ذلك أنتج أيضاً مزيجاً سامّاً من الغطرسة الأميركية والإفراط في الطموح. عبر الطيف السياسي، تَوصّل المسؤولون والمحلّلون إلى الاعتقاد بأن مجتمعات الشرق الأوسط بحاجة إلى مساعدة واشنطن، وأن الولايات المتحدة يمكن أن تستخدم قوّتها بطرق بنّاءة في المنطقة. ما تبع ذلك كان مساعٍ غير مثمرة لتغيير المجتمعات العربية وحلّ الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني والقضاء على "الجهاد" وإنهاء تطوير إيران للتكنولوجيا النووية. حقيقة أن خمس دول عربية هي الآن في مراحل مختلفة من الانهيار تساهم في الشعور العام داخل واشنطن بأن نهج الولايات المتحدة يتطلّب إصلاحاً جذرياً.إجماع جديد تَشكَّل بين نخب السياسة الخارجية الأميركية: لقد حان الوقت لواشنطن لتقرّ بأنه لم تعد لديها مصالح حيوية في المنطقة، ولتقلّل طموحاتها وفقاً لذلك، وأيضاً لتخفّض قوّاتها، وربّما حتى إنهاء حقبة "الحروب التي لا نهاية لها" بالانسحاب من الشرق الأوسط برمّته. بعد عقدين صعبين، قد تبدو مثل هذه الحجج مقنعة. لكن مغادرة الشرق الأوسط ليست سياسة سليمة. لا تزال لدى واشنطن مصالح مهمّة هناك تستحق الحماية، حتى لو جعلت التغييرات السياسية والتكنولوجية والاجتماعية تلك المصالح أقلّ أهمية ممّا كانت عليه قبل عقود. وبدلاً من استخدام القوة الأميركية لإعادة تشكيل المنطقة، يحتاج صنّاع السياسة إلى تبنّي هدف أكثر واقعية وقابلية للتحقّق، يتمثّل في إرساء الاستقرار والحفاظ عليه.
لسوء الحظ، فإنّ كلّ الأحاديث الفضفاضة عن الانسحاب، في السنوات الأخيرة، قوّضت نفوذ واشنطن. بفضل التصوّر السائد بين قادة الشرق الأوسط بأن الولايات المتحدة تعتزم التخلّي عن دورها القيادي، برزت الصين وروسيا كوسيطَي سلطة بديلين: تطوّر سلبي ليس فقط لواشنطن، ولكن لشعوب المنطقة أيضاً (...).

أخرجوا
أولئك الذين يدعون إلى التراجع، أو الانسحاب من الشرق الأوسط، كانوا ذات يوم أصواتاً في الخواء. ليس بعد الآن: ما كان ذات مرّة موقفاً هامشياً أصبح الحكمة التقليدية. خذ على سبيل المثال ثلاثة أماكن في المنطقة شوّشت واشنطن على مدى العقد الماضي: سوريا وليبيا وإيران. في عام 2011، دافع عدد قليل من الأصوات المنفردة عن تدخّل عسكري أميركي، بعدما تَحرّك ديكتاتور سوريا بشار الأسد لسحق انتفاضة شعبية. في هذه الأثناء، كانت معارضة استخدام القوة، في الكونغرس والبيت الأبيض والبنتاغون وفي أوساط المعلّقين على السياسة الخارجية، ساحقة. وبالمثل، في العام ذاته، عندما هدّد الزعيم الليبي معمّر القذافي بمذبحة للقضاء على التمرّد، اتفق معظم المسؤولين والمحلّلين الأميركيين على أن الدور الأميركي يجب أن يقتصر على إنشاء منطقة حظر جوي لمنع النظام من استخدام القوة الجوية (...).
تستمرّ إسرائيل في التمتّع بدعم أميركي كبير، لكن من المرجّح أن تُقلّل التغييرات الديموغرافية والسياسية في الولايات المتحدة من سخاء واشنطن في العقود المقبلة. ومن الصعب، بشكل متزايد، إثبات أن إسرائيل لا تزال بحاجة إلى المساعدة الأميركية (...). لا تزال إيران تشكّل تحدّياً، لكن يمكن للجيش الإسرائيلي ردع طهران وحلفائها، ويمتلك الإسرائيليون جيشاً أكثر تطوّراً بكثير من أيّ من جيرانهم. طوّرت إسرائيل علاقاتها مع الدول العربية في الخليج، بما في ذلك تطبيع العلاقات مع البحرين والإمارات العربية المتحدة. ببساطة، لم تعد إسرائيل حليفاً محاصَراً (...).

إبقوا مكانكم
إذا كانت حراسة تدفّق النفط وحماية إسرائيل ومحاربة الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل لم تعد تجعل الشرق الأوسط أولوية للسياسة الخارجية الأميركية، أو تبرّر وجوداً عسكرياً أميركياً كبيراً هناك، فماذا يعني ذلك؟ الجواب هو أن الوجود الأميركي في المنطقة يوفّر درجة من الاستقرار في جزء من العالم مزّقته أعمال العنف والدول المنهارة والسلطوية. إن الشرق الأوسط الذي شكّلته درجة عالية من التدخّل الأميركي يكاد لا يكون معقلاً للديموقراطية الليبرالية والازدهار. لكن وجود شرق أوسط ما بعد أميركا سيكون أسوأ (...).
لمكافحة التهديد المستمر، فإنّ ما تحتاجه واشنطن ليس "حرباً على الإرهاب" مبنيّة على رؤى تغيير النظام، وتعزيز الديموقراطية، و"كسب القلوب والعقول"، بل نهجاً واقعياً يركّز على جمع المعلومات الاستخبارية، والعمل الشرطي، والتعاون متعدّد الأطراف، والتطبيق الحكيم للعنف عند الضرورة (...).
ربّما يجب أن يكون التغيير الأكبر في نهج واشنطن تجاه المنطقة هو من خلال علاقاتها مع إسرائيل. يجب ألا تكون الولايات المتحدة راعية لإسرائيل بعد الآن. يجب أن يرغب القادة الأميركيون في علاقات جيّدة مع إسرائيل قوية وآمنة. لكن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة إلى تزويد إسرائيل بالمساعدة. لتحقيق هذه الغاية، يجب على البلدين الاتفاق بشكل متبادل على إلغاء المساعدة العسكرية الأميركية على مدار العقد المقبل (...). حتى بدون المساعدة العسكرية، ستبقى الشراكة الأميركية - الإسرائيلية قوية (...).

تكاليف التراخي
هذا ما تبدو عليه سياسة الولايات المتحدة الواقعية في الشرق الأوسط: احتواء إيران، وإعادة تجهيز الحرب ضدّ الإرهاب لتقليل آثارها الجانبية العكسية، وإعادة تنظيم الانتشار العسكري للتأكيد على حماية الممرّات البحرية، وتقليص حجم العلاقة الأميركية - الإسرائيلية لتعكس قوة إسرائيل النسبية. من شأن مثل هذا النهج أن يهمل الطموحات العظيمة التي سعى الأميركيون وراءها (...). لكن سيجري تجنّب الكوارث التي ستنجم عن مغادرة الولايات المتحدة. لمعرفة الشكل الذي قد تبدو عليه المنطقة في هذا السيناريو، يحتاج المرء فقط إلى إلقاء نظرة على الأحداث الأخيرة التي ساهم فيها تقاعس الولايات المتحدة في نتائج كارثية.
خذوا على سبيل المثال التدخّل العسكري بقيادة السعودية في اليمن، والذي بدأ في آذار/ مارس 2015. كانت تكاليف هذه المجازفة باهظة، خصوصاً بالنسبة للمدنيين اليمنيين (...). أدّت الحرب أيضاً إلى زعزعة استقرار شبه الجزيرة العربية، ممّا جعل من الصعب على واشنطن مواجهة التطرّف وحماية التدفّق الحر للطاقة. لم يتمّ توقّع أيّ من هذه النتائج مسبقاً، وربما كان قد تمّ تخفيف أو تجنّب بعضها لو لم تُبدِ الولايات المتحدة رغبتها في مغادرة الشرق الأوسط (...).
المنطقة الأخيرة التي قد يؤدّي فيها انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط إلى جعل الأمور أسوأ، هي شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث التوتّرات حول وضع قبرص، والحدود البحرية، والوصول إلى رواسب الغاز الطبيعي، تثير مجموعة كبيرة من البلدان ضدّ بعضها البعض، بما في ذلك العديد من حلفاء "الناتو" والعديد من الشركاء الاستراتيجيين للولايات المتحدة. لم تخلق هذه النزاعات المعقّدة والمرتبطة ببعضها البعض وضعاً خطيراً في البحر فقط، ولكنّها تهدّد بتفاقم الوضع القاتم في ليبيا المجاورة، حيث لا تزال الحرب الأهلية مستعرة، واستقطبت عدداً من البلدان، بما في ذلك مصر وتركيا (...). كانت الولايات المتحدة غائبة بشكل واضح عن المشهد، باستثناء عدد من عمليات الانتشار البحرية ذات التوقيت المناسب خلال الصيف، والتي بدت وكأنها تهدّئ التوتّرات للحظات. لكن عدم مشاركة الولايات المتحدة في هذه الصراعات من شأنه أن يزيد من فرص خروجها عن السيطرة.

ما يهمّ فعلاً
(...) لقد تعثّرت واشنطن في الشرق الأوسط لأنها فقدت رؤية ما يهمّ حقاً في المنطقة. مَثّل أوّل عقدين من هذا القرن حقبة كان كلّ شيء فيها وأيّ شيء تقريباً مبرّراً، من حيث المصالح الأميركية. يجب أن يكون الهدف، الآن، توضيح ما هو مهمّ، ومطابقة الموارد الوطنية لحماية تلك الأشياء. إعلان الهزيمة والعودة إلى الوطن لن يحلّ شيئاً.

(فورين أفيرز - ستيفن كوك)

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا