انتقلت الولايات المتحدة إلى خطوة جديدة مفاجئة نسبياً، بفرضها عقوبات على مؤسّسة الصناعات العسكرية التركية بشخص رئيسها، إسماعيل ديمير، وكلٍّ من المسؤولين فيها: مصطفى ألبير دنيز، وسرهات غنتش أوغلو، وفاروق يغيت. عقوباتٌ بدت مستهجَنة بالنسبة إلى الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، ولا سيّما أنها تستهدف دولة عضواً في "حلف شمال الأطلسي"، وهذه سابقة. لكن إردوغان ما لبث أن تحدّى واشنطن بقوله إن "عملنا على تطوير الصواريخ والصناعات العسكرية سيتضاعف مرّتين"، معتبراً القرار الأميركي بمثابة اعتداء على الحقوق السيادية لتركيا.أعقب الكشفَ عن العقوبات الأميركية وتصريحات إردوغان، إعلانُ هذا الأخير تجربة منظومة صواريخ "حصار- أ" (HİSAR-A) الطويلة المدى، والتي تستهدف الطائرات. كما أعلن أن الصاروخ محلّي الصنع مئة في المئة، أنتجته مؤسّستا "أسيلسان" و"روكيتسان" التركيتان الرسميتان. وقد تأخّرت تجربته بسبب افتقاده قطعاً أجنبية، تمّ تصنيعها لاحقاً في تركيا. إعلانٌ أتبعته أنقرة، في اليوم التالي، بآخر تؤكّد فيه أنها على وشك الانتهاء من وضع اللمسات الأخيرة على تجربة صاروخ "حصار - أو" (HISAR- U)، وهو نسخة مطوّرة من "حصار- أ"، ويعادل منظومتَي "إس-400" و"باتريوت"، إذ يطال الطائرات على مسافات مرتفعة. وفي هذا الإطار، يقول العقيد المتقاعد، أونال أتاباي، إن صواريخ "حصار - أو" سوف تحلّ لاحقاً محلّ منظومة "إس-400". لكن إلى حين اكتمال تصنيعها وتجربتها، ستبقى الحاجة قائمة إلى الصواريخ الروسية. ويعتبر أتاباي أن تجربة "حصار- أ" هي رسالة إلى كلّ العالم، على رغم إقراره بمحدودية تأثير العقوبات الأميركية. ويقول إن "عدم وجود قطع غيار في الصناعة الدفاعية يدفع بلداً مثل تركيا إلى إيجاد حلول"، إذ إن "مثل هذه العقوبات تساعد على تطوير الصناعة العسكرية التركية"، مشيراً إلى أن عقوبات الولايات المتحدة السابقة على تركيا بسبب قبرص (1974)، كانت بداية لصناعات عسكرية وصلت اليوم إلى ما نحن عليه. ويعتقد أتاباي أن أميركا وأوروبا تستهدفان، من وراء هذه العقوبات، "الدور التركي في المنطقة، من ليبيا وشرق المتوسط إلى العراق وسوريا والبحر الأسود والقوقاز"، إذ يرى أنهما "منزعجتان من التدخل التركي في مناطق حزام النار هذا، وتعتبران تركيا عقبة أمام أهدافهما الاستراتيجية هنا. الأميركيون كما الأوروبيون يعبّرون عن ذلك". أمّا "حلف شمال الأطلسي"، فقد أعرب أمينه العام، ينس ستولتنبرغ، عن أسفه للعقوبات، داعياً الطرفين إلى البحث عن طرق حلّ. لكنه ذكّر بأن الحلف قال لتركيا إن "إس-400" لا تنسجم مع الأنظمة التي يستخدمها "الناتو".
لكن ماذا يقول إسماعيل ديمير نفسه؟ في حوار مع صحيفة "يني شفق"، يقول: "أُكرّر أننا لن نتأثّر بمثل هذه العقوبات. ونحن فعلاً مصمّمون على ذلك. وإذا كان مِن تأثير في بعض المجالات، فهذا سيكون خيراً لنا، ويُمكّننا من التنبّه للثغرات". ويشير، في هذا السياق، إلى أن تركيا "لا تستورد أيّ قطعة ذات منشأ أميركي ومهمّة لنا. لن يتغيّر علينا شيء. وما يمكن أن ينقصنا، ننكبّ عليه وننتجه خلال شهرين إلى ثلاثة. وما جرى سيجعلنا أكثر قوّة وأكثر يقظة". وفي شأن منعه أو فرض شروط على سفره إلى أميركا، يلفت ديمير: "في الأساس، لا شيء عندي في أميركا. كل شيء هنا في تركيا. لقد بقيت ثماني إلى تسع سنوات في أميركا وأتممت دراستي، ولي أصدقاء وعلاقات شخصية. ولكن إذا لم أذهب، فأيّ مصيبة! سأواصل علاقاتي الإنسانية، لكن عدم الذهاب إلى أميركا ليس مصيبة". وعن تصوّره للحلّ في المستقبل، يعتبر أن الأمر "مرتبط بصواريخ إس-400، ونحن لن نتخلّى عن هذه الصواريخ، وهذا قرار سيادي. ولن نتنازل. ولغة التهديد لن تُركّعنا، ونحن نريد أفضل العلاقات اليوم وغداً، وهذا متعلّق بسلوك واشنطن". وتذكر الصحيفة أن ديمير يتربّع على رأس الصناعات العسكرية منذ ستّ سنوات، وفي عهده ارتفع عدد مشاريع التصنيع من 300 إلى 700 مشروع. وقد أدرجت مجلة "ديفنس نيوز" سبع شركات تركية من بين أفضل مئة شركة تصنيع في العالم، بعدما كان عددها، قبل ثلاث سنوات، ثلاثاً. وتَعتبر الصحيفة أنه ليس من حقّ الولايات المتحدة فرض عقوبات على تركيا، ولا سيما أن الرئيس دونالد ترامب قال، السنة الماضية، في قمة أوساكا للدول العشرين، إن"الرجل على حقّ"، أي إن إردوغان محقّ في شراء "إس-400"، بعد رفض الولايات المتحدة بيعه صواريخ "باتريوت".
تؤكّد تركيا أنها على وشك تجربة صاروخ «حصار - أو» الذي يعادل منظومتَي «إس-400» و«باتريوت»


ويرى مستشار إردوغان، ياسين أقطاي، بدوره، أن مجالات المناورة أمام أميركا تضيق أكثر مع مرور الزمن، لأن تركيا القديمة انتهت. ويقول إن ترامب يعارض بشدّة هذه العقوبات، ولكنها ستسري لأنها مرّت في مجلسَي النواب والشيوخ. ويضيف أن الولايات المتحدة هي التي سحبت منظومة "باتريوت" من تركيا، ورفضت أيضاً بيعها وبالمال، ما جعل البلاد مكشوفة، واضطرّها إلى شراء "إس-400"، معتبراً أن واشنطن، بهذه العقوبات، إنما تعاقب نفسها، وهي لا تزال تدير العالم بعقلية قديمة تجعلها هي المتضرّرة قبل غيرها.
ويقول باريش دوستر، في صحيفة "جمهورييت"، من جهته، إنه لا الرسائل الإيجابية لتركيا إلى ترامب وبايدن، ولا الأسلوب المرن تجاه أوروبا، ولا تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ولا الاستعداد للحوار مع اليونان، أفادت في تغيير موقف واشنطن من فرض العقوبات على أنقرة. ويعدّد دوستر ستة أسباب للموقف الأميركي:
1- أن غالبية الذين يدلون بتعليقات في تركيا حول أميركا لا يعرفون الولايات المتحدة. يظنّون أنها عبارة عن الرئيس، بينما توجد مؤسّسات وهيئات أخرى مثل وزارة الخارجية ووزارة الدفاع والكونغرس والـ"سي آي إيه" والبيروقراطية القوية وعالم الأعمال واللوبيات المؤثّرة والإعلام والأكاديميين.
2- أن بنية الدولة والمجتمع في أميركا ليست موحّدة. لكن في السياسة الخارجية، فإن البنى المؤسّساتية تعمل بصورة قوية. لذلك، فالفرق بين الجمهوريين والديموقراطيين هو مثل الفرق بين "كوكاكولا" و"بيبسي كولا".
3- تمارس الولايات المتحدة نفوذاً على تركيا عبر أدوات متعدّدة. وإذ تَظهر مشكلة معها، فإن هذه الأدوات تفعل فعلها في الضغط عليها. بالنسبة إلى أنقرة، تجري مناقشة المشكلة، ومن بعدها يجري الانسجام مع الضغوط.
4- ارتباط السياسة التركية بالولايات المتحدة والإعجاب بها يعتبر ارتباطاً بنيوياً. والأمثلة كثيرة جداً: الشراكة في مشروع الشرق الأوسط الكبير؛ الجهد الذي بذلته الحكومة لمحاولة تمرير مذكّرة الأول من آذار/ مارس 2003 في البرلمان؛ عدم إبداء ردّ فعل على وضع جنود أميركيين أكياساً على رؤوس جنود أتراك في السليمانية 2003؛ الدعم لمسعود البارزاني والانسجام في السياسات في سوريا وليبيا؛ إطاحة رؤوف دنكتاش في قبرص.
5- لكن مدّ اليد للإمبريالية الأميركية لم يُفِد تركيا في كثير من المحطّات، مثل الانفتاح على أرمينيا والانفتاح على الأكراد ودعم "الربيع العربي". لم ينفع كل هذا لدى واشنطن، ودفعت أنقرة ثمناً باهظاً لذلك.
6- المشكلات بين تركيا والولايات المتحدة بنيوية. من رسالة جونسون التهديدية إلى إينونو في الستينيات، ودعم الولايات المتحدة للتنظيمات الإرهابية، وأزمة صواريخ "جوبيتر"، والتدخل العسكري التركي في قبرص، وأزمة الراهب برونسون وأكثر من أربعين قضية أخرى. وفي حال لم تؤخذ بعين الاعتبار أولويات ومصالح وتوقعات وتعريف التهديدات لكلا الطرفين، فإن الخطوات التي تُتّخذ لن تكون ناجحة. والدليل على ذلك، مسألة العقوبات الأخيرة على الصناعات العسكرية التركية. إذ، وللمرّة الأولى، منذ حظر السلاح الأميركي على تركيا عام 1975، تفرض الولايات المتحدة عقوبات.
أمّا مواجهة هذه العقوبات، يختم باريش دوستر، فتكون، كما أراد أتاتورك، بتعزيز الجبهة الداخلية من طريق إعلاء سقف العلم والصناعة والتكنولوجيا والتربية والقانون والديموقراطية.
في المحصّلة، تبدو العقوبات الأميركية مجرّد رسالة روتينية أميركية للضغط على تركيا، على الأقلّ لعدم تشغيل صواريخ "إس-400". وحتى لو اتّبع الرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، سياسات أكثر تشدّداً تجاه تركيا، فإن رغبة "حلف شمال الأطلسي" في الاحتفاظ بهذه الأخيرة في صفوفه، وعدم تعريض العلاقات الداخلية "الأطلسية" لمشكلات تؤثر على دوره العالمي، سيحدّ من خطوات واشنطن المستقبلية، ويأخذها في اتجاه أن تكون مجرّد رسائل وعض أصابع وشدّ حبال.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا