مَن يصدّق أن دول العالم ستلتزم بخفض الانبعاثات قبل أو من دون أن تلتزم بتغيير السياسات؟
هذه القضايا التي كانت تُطرح وتناقَش في الاجتماعات الرسمية السنوية للدول المُوقّعة على الاتفاقية الإطارية لتغيّر المناخ المبرَمة منذ عام 1992، لم تعد تُطرح في هذه القمم المصنّفة "سياسية" أكثر منها "تقنية"، وهذا ما يدلّ على غياب الجدية، بالإضافة إلى ضعف الالتزام بقضية باتت تُعتبر أكبر وأخطر قضايا العصر. أمّا حول تمويل الصندوق، الذي كان يُفترض أن يتمّ دعمه هذا العام بـ100 مليار دولار، فإن حجم التعهّدات في الاجتماع الأخير لم يصل إلى 20% من المبلغ المنصوص عليه في "اتفاقية باريس". وإذا أضيف إلى ذلك أن الاتفاقية نفسها ليست ملزمة، ولا تتضمّن عقوبات ضدّ مَن لا يلتزم بها، وأن الولايات المتحدة ضغطت في اللحظات الأخيرة قبيل إقرارها حتى تكون شاملة كلّ دول العالم، وليس الدول المتقدّمة صناعياً فقط (كما كانت الحال مع بروتوكول كيوتو عام 1997، الذي انتهت مفاعيله هذا العام من دون أن يُنفّذ بحجة أنه غير عالمي لتَحلّ اتفاقية باريس مكانه)، فلا يمكن توقّع غير تلك النتيجة الفاشلة التي تظهر اليوم، حيث استُبدلت بمفاهيم مثل "الالتزامات العالمية" من قبيل "الإسهامات المحدّدة وطنياً"، بمعنى ترك الحرية لكلّ دولة، حسب أوضاعها وإمكاناتها وأخلاقها، لأن تعلن ما تستطيع أن تفعله من تلقاء ذاتها.
فما الذي يمكن توقّعه بعد أن تعود الولايات المتحدة إلى الاتفاقية، ويعود ممثّلها جون كيري لأن يكون المفوّض التفاوض باسمها، وهو نفسه الذي ساهم في جعل الاتفاقية ضعيفة وفاقدة لأيّ قيمة عملية وتنفيذية عام 2015؟ ثم مَن يصدّق أن دول العالم ستلتزم بخفض الانبعاثات قبل أو من دون أن تلتزم بتغيير السياسات؟ وأيّ دولة تستطيع أن تلتزم بتراجع النمو مع التزامها بصفر انبعاثات؟ بَيّنت جائحة "كورونا" أن توقف عجلة الاقتصاد لم يساهم في خفض الانبعاثات كثيراً. فعلى رغم التباطؤ الصناعي الناجم عنها، لم يتوقف الارتفاع القياسي لانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، وهو من غازات الدفيئة المساهمة بصورة أساسية في احترار المناخ. وبحسب النشرة السنوية الأخيرة لـ"المنظمة العالمية للأرصاد الجوية" التابعة للأمم المتحدة، فقد سجّلت الانبعاثات العالمية اليومية لثاني أوكسيد الكربون انخفاضاً وصل إلى 17 % فقط بسبب تدابير الإغلاق، فيما ستُراوح نسبة الانخفاض السنوي الإجمالي للانبعاثات في عام 2020 ما بين 4.2 و7.5 %، وهو ما لن يؤدي إلى تقلّص مستويات تركيز ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي هذا العام، لأن تلك المستويات تمثّل نتيجة المجموع التراكمي للانبعاثات السابقة والحالية.
في الخلاصة، فإن مستوى تركيز ثاني أوكسيد الكربون سيستمرّ في الارتفاع هذا العام، لكن بوتيرة أدنى بقليل، من دون تخطّي مستويات التقلّبات الاعتيادية المُسجّلة بين عام وآخر في دورة الكربون. كذلك، فإن إجراءات مواجهة الجائحة لن تحلّ مشكلة التغيّر المناخي التي تحتاج إلى إجراء تحويل كامل للصناعات وأنظمة الطاقة والنقل عبر تخفيض الأنواع الرئيسة من غازات الدفيئة المعمّرة، ولا سيما ثاني أوكسيد الكربون والميثان وأوكسيد النيتروز. على أن هذا كلّه يبدو مستحيلاً من دون تغييرات جوهرية في النظام الحضاري الذي نعرفه، ولا سيما في اقتصاد السوق القائم على المنافسة.
ثاني أوكسيد الكربون
يمكن لثاني أوكسيد الكربون الناجم خصوصاً عن استخدام الوقود الأحفوري وإنتاج الإسمنت وإزالة الأحراج، البقاء قروناً عدّة في الغلاف الجوي، ولفترات أطول في المحيطات. وقد زادت نسبة تركيزه في الغلاف الجوي بسرعة أكبر بين عامَي 2018 و2019 مقارنة مع الزيادة بين عامَي 2017 و2018، أو مع معدّل السنوات العشر الأخيرة.
وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن المرّة الأخيرة التي شهدت فيها الأرض مستوى تركيز مشابهاً في ثاني أوكسيد الكربون، كانت قبل ثلاثة ملايين سنة إلى خمسة ملايين، وكانت الحرارة عندها أعلى بدرجتين مئويتين إلى ثلاث درجات مقارنة مع الوضع الراهن، كما أن مستوى البحار كان أعلى بعشرة أمتار إلى عشرين متراً مقارنة مع المستوى الحالي، لكن عدد سكان العالم لم يكن يبلغ 7.7 بلايين نسمة.
الميثان وأوكسيد النيتروز
تشكّل الأنشطة البشرية (بينها تربية المواشي وزراعة الأرزّ واستغلال مصادر الطاقة الأحفورية ومكبّات النفايات) 60% من انبعاثات غاز الميتان. وقد شهد مستوى تركيزه تباطؤاً طفيفاً بين عامَي 2018 و2019 مقارنة مع الزيادة المسجّلة بين عامَي 2017 و2018، لكن بسرعة أكبر مقارنة مع معدّل السنوات العشر الأخيرة. أمّا مستوى ازدياد تركيز أوكسيد النيتروز، وهو من غازات الدفيئة ومنتج كيميائي يشكّل خطراً على طبقة الأوزون، فقد بقي عملياً مساوياً للمعدّل المُسجّل للسنوات العشر الأخيرة. وتعود 40 في المئة من انبعاثات هذا النوع من غازات الدفيئة إلى الأنشطة البشرية المتعلّقة بالأسمدة وعمل آليات التحويل الصناعي، فيما الباقي يتأتّى من مصادر طبيعية.
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا