في الذكرى الخامسة للتصديق على "اتفاقية باريس للمناخ"، عَقدت الأمم المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، بالشراكة مع تشيلي وإيطاليا، نهاية الأسبوع الماضي، قمّة افتراضية لإظهار مدى الالتزام بالاتفاقية والحصول على تعهّدات جديدة في شأنها. وجاءت هذه القمّة كبديل من القمّة الرسمية الـ26 التي كانت ستُعقد في المملكة المتحدة وأُجّلت للعام المقبل بسبب جائحة "كورونا". وعلى غرار "قمّة العمل المناخي" لعام 2019 التي عقدها الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، لم يتمّ السماح بالمشاركة إلا للبلدان وأصحاب المصلحة الذين أبدوا الاستعداد لتقديم التزامات جديدة بخفض الانبعاثات المُتسبّبة بتغيّر المناخ. ومن أهمّ الالتزامات التي أُعلنت في القمّة الأخيرة التي لا تُعتبر رسمية بل بمثابة "قمّة إعلان نوايا"، تعهُّد الصين بخفض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون بأكثر من 65٪ من مستويات 2005 بحلول عام 2030، وتعهُّد الاتحاد الأوروبي بخفض انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة 55٪ على الأقلّ من مستويات عام 1990 بحلول عام 2030، فضلاً عن تعهُّد المملكة المتحدة بالحدّ من انبعاثات تلك الغازات بنسبة 68٪ على الأقلّ بحلول العام نفسه. كذلك، أُطلقت إعلانات مختلفة من قِبَل البلدان النامية، فيما تحدّثت بعض الدول عن خططها للتكيّف، وتعهّدت أخرى بتقديم تمويل لمصلحة قضايا المناخ. أيضاً، أعلنت مجموعة من المدن مبادرات محدّدة للتخفيف من الانبعاثات، بالإضافة إلى التعهّدات المتعلّقة بالتخفيف من الشركات، ولا سيما في بعض الصناعات كالطيران والنقل والتكنولوجيا والأزياء. وإذا أضيف إلى ما تقدّم إعلان الرئيس الأميركي المنتخَب، جو بايدن، نيّته العودة إلى "اتفاقية باريس المناخية" في اليوم الأول من تسلّمه المنصب، وخفض صافي انبعاثات الولايات المتحدة الأميركية إلى الصفر بحلول عام 2050، يمكن تسجيل بعض الملاحظات. يبدو واضحاً حصول انزياح كبير عن الاجتماعات الرسمية المعتادة والممنهجة، والتي بات يستعاض عنها بقمم غير رسمية وغير ملزمة لأحد. كما لم يعد هناك مَن يتحدّث عن "التزامات" بل عن "إعلانات"، فيما يتبيّن من خلال دعوة ممثّلي مدنٍ حول العالم إلى المشاركة في مؤتمرات المناخ أن هناك نوعاً من اليأس من الدول والأنظمة في ما يتعلّق بهذه القضية التي بدأ الحديث عنها رسمياً منذ أوائل التسعينيات. يتبيّن، أيضاً، أنه ليست هناك معايير موحّدة للالتزامات؛ ففي حين اعتمد الاتحاد الأوروبي عام 1990 كسنة مرجعية، اختارت الصين عام 2005 كسنة مرجعية تقيس على أساسها الانبعاثات التي ستُخفّضها، مع الفرق الشاسع في حجم الانبعاثات العالمية في خلال 15 سنة. كذلك، يَظهر حجم التباين في نسب التخفيضات المتعهَّدة ما بين 50 و55 و65 و68% بحلول عام 2030، أو خفضها إلى الصفر بحلول عام 2050، في حين أن المطلوب بحسب تقارير الأمم المتحدة أكثر من ذلك بكثير لكي لا ترتفع حرارة الأرض أكثر من درجة ونصف درجة. فضلاً عما تقدّم، يمكن التشكيك في الفرق الشاسع بين المعلَن من إجراءات وبين المخطَّط له من سياسات داخل كلّ دولة في قطاعاتها كافة، بالإضافة إلى عدم الانسجام بين دول مُشكِّلة لاتحادات. وإذا أُخدت على سبيل المثال تعهّدات الاتحاد الأوروبي، فإن مراجعة سياسات دولة مثل بولندا لا تزال تعتمد على الفحم الحجري بنسبة 80% لإنتاج الطاقة الكهربائية تُظهر أن هناك استحالة في الوفاء بالالتزامات المعلَنة، علاوة على وجود تباينات حول القطاعات التي ستُخفّض الانبعاثات وطرق التخفيف وكيفية الاحتساب وكيفية القياس والتحقّق... إلخ.
مَن يصدّق أن دول العالم ستلتزم بخفض الانبعاثات قبل أو من دون أن تلتزم بتغيير السياسات؟


هذه القضايا التي كانت تُطرح وتناقَش في الاجتماعات الرسمية السنوية للدول المُوقّعة على الاتفاقية الإطارية لتغيّر المناخ المبرَمة منذ عام 1992، لم تعد تُطرح في هذه القمم المصنّفة "سياسية" أكثر منها "تقنية"، وهذا ما يدلّ على غياب الجدية، بالإضافة إلى ضعف الالتزام بقضية باتت تُعتبر أكبر وأخطر قضايا العصر. أمّا حول تمويل الصندوق، الذي كان يُفترض أن يتمّ دعمه هذا العام بـ100 مليار دولار، فإن حجم التعهّدات في الاجتماع الأخير لم يصل إلى 20% من المبلغ المنصوص عليه في "اتفاقية باريس". وإذا أضيف إلى ذلك أن الاتفاقية نفسها ليست ملزمة، ولا تتضمّن عقوبات ضدّ مَن لا يلتزم بها، وأن الولايات المتحدة ضغطت في اللحظات الأخيرة قبيل إقرارها حتى تكون شاملة كلّ دول العالم، وليس الدول المتقدّمة صناعياً فقط (كما كانت الحال مع بروتوكول كيوتو عام 1997، الذي انتهت مفاعيله هذا العام من دون أن يُنفّذ بحجة أنه غير عالمي لتَحلّ اتفاقية باريس مكانه)، فلا يمكن توقّع غير تلك النتيجة الفاشلة التي تظهر اليوم، حيث استُبدلت بمفاهيم مثل "الالتزامات العالمية" من قبيل "الإسهامات المحدّدة وطنياً"، بمعنى ترك الحرية لكلّ دولة، حسب أوضاعها وإمكاناتها وأخلاقها، لأن تعلن ما تستطيع أن تفعله من تلقاء ذاتها.
فما الذي يمكن توقّعه بعد أن تعود الولايات المتحدة إلى الاتفاقية، ويعود ممثّلها جون كيري لأن يكون المفوّض التفاوض باسمها، وهو نفسه الذي ساهم في جعل الاتفاقية ضعيفة وفاقدة لأيّ قيمة عملية وتنفيذية عام 2015؟ ثم مَن يصدّق أن دول العالم ستلتزم بخفض الانبعاثات قبل أو من دون أن تلتزم بتغيير السياسات؟ وأيّ دولة تستطيع أن تلتزم بتراجع النمو مع التزامها بصفر انبعاثات؟ بَيّنت جائحة "كورونا" أن توقف عجلة الاقتصاد لم يساهم في خفض الانبعاثات كثيراً. فعلى رغم التباطؤ الصناعي الناجم عنها، لم يتوقف الارتفاع القياسي لانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، وهو من غازات الدفيئة المساهمة بصورة أساسية في احترار المناخ. وبحسب النشرة السنوية الأخيرة لـ"المنظمة العالمية للأرصاد الجوية" التابعة للأمم المتحدة، فقد سجّلت الانبعاثات العالمية اليومية لثاني أوكسيد الكربون انخفاضاً وصل إلى 17 % فقط بسبب تدابير الإغلاق، فيما ستُراوح نسبة الانخفاض السنوي الإجمالي للانبعاثات في عام 2020 ما بين 4.2 و7.5 %، وهو ما لن يؤدي إلى تقلّص مستويات تركيز ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي هذا العام، لأن تلك المستويات تمثّل نتيجة المجموع التراكمي للانبعاثات السابقة والحالية.
في الخلاصة، فإن مستوى تركيز ثاني أوكسيد الكربون سيستمرّ في الارتفاع هذا العام، لكن بوتيرة أدنى بقليل، من دون تخطّي مستويات التقلّبات الاعتيادية المُسجّلة بين عام وآخر في دورة الكربون. كذلك، فإن إجراءات مواجهة الجائحة لن تحلّ مشكلة التغيّر المناخي التي تحتاج إلى إجراء تحويل كامل للصناعات وأنظمة الطاقة والنقل عبر تخفيض الأنواع الرئيسة من غازات الدفيئة المعمّرة، ولا سيما ثاني أوكسيد الكربون والميثان وأوكسيد النيتروز. على أن هذا كلّه يبدو مستحيلاً من دون تغييرات جوهرية في النظام الحضاري الذي نعرفه، ولا سيما في اقتصاد السوق القائم على المنافسة.



ثاني أوكسيد الكربون
يمكن لثاني أوكسيد الكربون الناجم خصوصاً عن استخدام الوقود الأحفوري وإنتاج الإسمنت وإزالة الأحراج، البقاء قروناً عدّة في الغلاف الجوي، ولفترات أطول في المحيطات. وقد زادت نسبة تركيزه في الغلاف الجوي بسرعة أكبر بين عامَي 2018 و2019 مقارنة مع الزيادة بين عامَي 2017 و2018، أو مع معدّل السنوات العشر الأخيرة.
وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن المرّة الأخيرة التي شهدت فيها الأرض مستوى تركيز مشابهاً في ثاني أوكسيد الكربون، كانت قبل ثلاثة ملايين سنة إلى خمسة ملايين، وكانت الحرارة عندها أعلى بدرجتين مئويتين إلى ثلاث درجات مقارنة مع الوضع الراهن، كما أن مستوى البحار كان أعلى بعشرة أمتار إلى عشرين متراً مقارنة مع المستوى الحالي، لكن عدد سكان العالم لم يكن يبلغ 7.7 بلايين نسمة.


الميثان وأوكسيد النيتروز
تشكّل الأنشطة البشرية (بينها تربية المواشي وزراعة الأرزّ واستغلال مصادر الطاقة الأحفورية ومكبّات النفايات) 60% من انبعاثات غاز الميتان. وقد شهد مستوى تركيزه تباطؤاً طفيفاً بين عامَي 2018 و2019 مقارنة مع الزيادة المسجّلة بين عامَي 2017 و2018، لكن بسرعة أكبر مقارنة مع معدّل السنوات العشر الأخيرة. أمّا مستوى ازدياد تركيز أوكسيد النيتروز، وهو من غازات الدفيئة ومنتج كيميائي يشكّل خطراً على طبقة الأوزون، فقد بقي عملياً مساوياً للمعدّل المُسجّل للسنوات العشر الأخيرة. وتعود 40 في المئة من انبعاثات هذا النوع من غازات الدفيئة إلى الأنشطة البشرية المتعلّقة بالأسمدة وعمل آليات التحويل الصناعي، فيما الباقي يتأتّى من مصادر طبيعية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا