مثلما أن السياسات الاستعمارية استندت دائماً إلى مبدأ «فرّق تَسُد» لإحكام سيطرتها على العديد من بلدان جنوب العالم وشعوبها، عبر استغلال تناقضاتها الداخلية، أيّاً كانت طبيعتها، لمصلحتها، فإن حركات التحرّر الوطني والدول المستقلّة التي نجحت في تحقيق أهدافها أحسنت الاستفادة من النزاعات بين القوى الكبرى، خاصة في مراحل استعارها. الحرب العالمية الثانية، وما صاحبها من أهوال في بلدان المركز الأوروبي، ومن إضعاف كبير للأخيرة، مَثّلت فرصة تاريخية بالنسبة إلى شعوب ما كان يُسمّى في اللغة السياسية السائدة في تلك الحقبة «المستعمرات وأشباه المستعمرات» لتصعيد نضالها من أجل التحرّر من منظومات السيطرة المفروضة من هذه البلدان. لم تكن مصادفة أن الصين والهند باتتا بلدين مستقلّين بضع سنوات بعد هذه الحرب، وأن معارك الاستقلال الوطني في فيتنام والجزائر وبقية بقاع الجنوب احتدمت في تلك الفترة نفسها. الأمر عينه ينطبق على الحرب الباردة التي انطلقت منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي بين الولايات المتحدة ومعسكرها الرأسمالي وبين الاتحاد السوفياتي وكتلته الاشتراكية، والتي أتاحت للدول والأحزاب المناهضة للهيمنة الأميركية إمكانية توظيف الانقسام الدولي ضدّ عدوّها الرئيس. وقد ساهمت استراتيجية الاحتواء التي اعتُمدت ضدّ الاتحاد السوفياتي، والتي كانت أوروبا إحدى ساحاتها الأساسية في ظلّ تواجد عسكري أميركي مباشر على أراضيها، في دفع الأوّل إلى التوجّه نحو بلدان الجنوب لكسر الحصار الناجم عن هذا الاحتواء، ولتعزيز علاقاته وشراكاته معها. سعي الرئيس الأميركي المنتخَب، جو بايدن، وفريقه، الآن، إلى إعادة اللحمة للمعسكر الغربي في مواجهة القوى غير الغربية، وفي مقدّمتها الصين وروسيا، يُعمّق الانقسام الدولي، ويُحوّل جنوب العالم مجدّداً إلى ساحة الصراع المركزية بين القوى الكبرى «المتنافسة»، وهو قد يوفّر فرصاً حقيقية أمام دوله وشعوبه للدفاع عن مصالحها الوطنية الحيوية وعن سيادتها واستقلالها.
«العالم الثالث» مسرح المجابهة
من اللافت أن يستعير هال براند مفهوم «العالم الثالث»، الذي بلوره عالم الديمغرافيا والأنتربولوجيا ومؤرّخ الاقتصاد الفرنسي، ألفريد سوفي، في بدايات الحرب الباردة (1952)، للإشارة إلى بلدان الجنوب، على الرغم من تخلّي الأكاديميا الغربية وغير الغربية عنه، بسبب التحوّلات الكبرى التي شهدها العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وكتلته الاشتراكية، والتغيّرات العميقة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي حصلت في الكثير من البلدان المذكورة. استعارة هذا المفهوم تشي بتجذّر عقلية الحرب الباردة، والنظر إلى الجنوب على أنه فضاء مستباح، لدى قطاع واسع من النخب الأميركية، يُعدّ هال براند أحد مُمثّليه. الأستاذ الحائز على «مقعد هنري كيسنجر» في «معهد الدراسات الدولية المتقدّمة» في جامعة جون هوبكينز، رأى، في مقال بعنوان «الصين والولايات المتحدة يتواجهان في العالم الثالث» على موقع «بلومبيرغ»، أن الأخير سيعود ساحة للتنازع كما كان خلال الحرب الباردة، لكن بين هاتين القوتين في الحقبة الراهنة. ومع أن هذا الخطاب يتجاهل تماماً تطلّعات ومصالح الأطراف المحلية التي تحالفت أو تقاطعت مع الاتحاد السوفياتي ضدّ الولايات المتحدة، وربّما تفعل الأمر نفسه مع الصين و/ أو روسيا حالياً، ويُصنّفها على أنها مجرّد قوى وكيلة، فالمهمّ هو تأكيده أن المسرح المركزي للصراع الدولي هو هذا الجزء من المعمورة قبل غيره.
يقول براند إن «الأطراف (أي بلدان الجنوب تمييزاً لها عن المركز الغربي) أصبحت في قلب التنافس الأميركي - الصيني، لأن وضع المركز الديمقراطي (أي الغرب) لم يعد هشّاً كما كان لفترة قريبة. فحتى أواخر 2019 وأوائل 2020، أدّى تضافر القوة الاقتصادية الصينية والسلوك التدميري الذاتي لأميركا ترامب إلى دقّ إسفين عميق في العالم الغربي. بدا من الممكن أن قسماً معتبراً من أوروبا قد يختار الحياد بين أميركا والصين، بل وأن يقع في شرك التبعية التكنولوجية لبكين. لم يتبدّد هذا الخطر تماماً، لكنه أضحى أقل حدّة». هو يبتهج لتصنيف الدول الأوروبية الصين كـ«خصم نظامي»، ولقرار بعضها عدم التعاون مع شركة «هواوي» في مجال بناها التحتية الرقمية الحسّاسة، ويرى أننا نشهد في أواخر عهد ترامب تَشكُّلاً «لائتلاف ديمقراطي لمقاومة النفوذ الصيني». غير أن «كعب أخيل» الولايات المتحدة، أو «الثغرة التي يَتسلّل منها النفوذ الصيني» حسب تعبير براند، هي بلدان «العالم الثالث» التي لا تستطيع «الصمود أمام إغواء القروض الصينية والبنى التحتية الرقمية القليلة الكلفة... غاية مشروع الطريق والحزام هي نسج الروابط الاقتصادية والدبلوماسية والتكنولوجية وربّما العسكرية بين الصين وغالبية البلدان النامية. من منظور بكين، فإن توسيع دائرة نفوذها في جنوب العالم هو خطوة حاسمة لبلوغ الندّية الاستراتيجية مع الولايات المتحدة». والحقيقة هي أن الصين، كما الاتحاد السوفياتي في زمن مضى، صاغت مشروع «الحزام والطريق» ردّاً على استراتيجية احتوائها وتطويقها التي اعتمدتها الولايات المتحدة منذ إدارة أوباما، تحت شعار «الاستدارة نحو آسيا»، في عام 2012. توحيد المعسكر الغربي في مقابلها لم يعد كافياً، والمطلوب هو سدّ منافذها نحو الجنوب. يتمّ ذلك من خلال صياغة استراتيجية موحّدة للمعسكر الغربي حيال دول هذا الأخير ترتكز على التفوّق العسكري الذي يضمن نجاحها.

حروب «التتبير»
كيف تستطيع الولايات المتحدة وقف صعود قوى دولية تمتلك ترسانات ضخمة عسكرية ونووية، وتعمل بكدّ على تطويرها كمّياً ونوعياً؟ ما تكشفه تقارير «البنتاغون» وسيناريواته الافتراضية هو أنه يستعدّ لاحتمالات الصدام المباشر معها، والذي قد يتمّ اللجوء خلاله إلى أسلحة وذخائر نووية تكتيكية. مايكل كلير، أحد أبرز الخبراء النقديين للاستراتيجية العسكرية الأميركية، أشار، في مقال بعنوان «إرث ترامب العسكري الخبيث» على موقع «توم ديسباتش»، إلى أن «استراتيجيّي البنتاغون تَصوّروا أن أيّ نزاع مع الصين وروسيا من المرجّح أن يشهد معارك طاحنة برّية وبحرية وجوية بغية تدمير البنى العسكرية الحيوية للعدو في الساعات الأولى أو الأيام الأولى في أسوأ الأحوال لتمهيد الطريق أمام اجتياح أميركي سهل لأراضيه... مراجعة الأدبيات العسكرية الروسية المتوفرة قادت محلّلين عسكريين غربيين إلى الاستنتاج أن الروس يزيدون من اعتمادهم على الأسلحة النووية التكتيكية للتصدّي لأيّ هجوم أميركي - أطلسي على أراضيهم». لمواجهة مثل هذا الاحتمال، وفقاً للوثيقة النووية الصادرة عن «البنتاغون» في عام 2018، فإن «الرئيس الأميركي يجب أن يمتلك مروحة من الخيارات النووية المحدودة والمتناسبة، وأنظمة إيصال ذات قدرات تفجيرية متعدّدة». وأوصت الوثيقة بإنتاج نوعين جديدين من الذخائر النووية: رأس نووي ذو قدرة تدميرية منخفضة تُجهَّز به صواريخ باليستية تُطلَق من الغواصات، وأخرى برؤوس نووية تُطلَق من البوارج. وقد بدأ بالفعل إنتاج هذه الأسلحة.
توحيد المعسكر الغربي في مواجهة الصين وروسيا، وتسعير سباق تسلّح معهما، والسعي إلى محاصرة نفوذهما في بلدان الجنوب، هي المرتكزات الثلاثة لاستراتيجية أميركية معلنة ستؤجّج حدّة الصراعات الدولية، خاصة في تلك البلدان. وعلى الرغم من المصاعب الناتجة من مثل هذا السياق الدولي، فإنه قد يفتح نوافذ فرص شديدة الإيجابية أمام شعوب الجنوب، كما حصل في سياقات دولية مشابهة خلال القرن العشرين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا