لم تكن ثمّة حاجة إلى انتظار تقرير الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية المُقدَّم إلى القيادة السياسية في إيران، من أجل فهم دور العلاقات التي تنسجها إسرائيل مع الأنظمة العربية في استراتيجيتها لمواجهة التهديدات المحدقة بأمنها القومي، وتحديداً في هذا التوقيت المتّصل بأكثر من سياق سياسي. مع ذلك، تبقى لأيّ تقارير من هذا النوع خصوصيات وفوائد في أكثر من اتجاه؛ فهي ترتقي إلى مرتبة المعطى الذي يكشف عن الرؤى والرهانات التي تستند إليها قيادة العدو، وتُشكّل مؤشراً كاشفاً عن اتجاه السياسات الإسرائيلية، وتساهم في تظهير مدى التباين أو الانسجام بين المؤسّستين السياسية والأمنية في مواجهة التحدّيات والقيود التي تعترض الاستراتيجية الإسرائيلية.في هذا السياق، كشف موقع «واللا» العبري أن قيادة الاستخبارات الإسرائيلية قَدّمت في الفترة الأخيرة، إلى المستوى السياسي الرفيع، صورة عن مستجدّات التهديد الذي تُمثّله الجمهورية الإسلامية في إيران على إسرائيل، لناحية التعاظم الدراماتيكي لقدراتها في السنوات الأخيرة. ووضعت الاستخبارات، في ضوء ذلك، توصياتها التي تمحورت حول ضرورة ــــ إلى جانب الاستمرار في استراتيجية «الضغوط القصوى» التي تتّبعها إدارة ترامب ــــ تعزيز منظومة العلاقات الإقليمية مع دول المنطقة.
التقرير الاستخباري، وإن لم يكشف عن تفاصيله، إلا أنه يمكن القول إن جزءاً كبيراً منه أصبح واضحاً في ضوء العديد من المواقف والتقارير السابقة، التي تُعدّ جزءاً من دور الاستخبارات التقليدي في رفد القيادتين السياسية والعسكرية بمستجدّات الأوضاع وما يكمن فيها من تهديدات وفرص مفترضة، بما في ذلك المواجهة مع الجمهورية الإسلامية التي تحتلّ مواجهتها على المستويات كافة رأس أولويات الأمن القومي الإسرائيلي، وهو ما سبق أن عبَّر عنه القادة السياسيون والأمنيون والعسكريون في تل أبيب. وفي ضوء التقييم الاستخباري، تدرس الأجهزة المختصّة عادةً الخيارات البديلة أو الداعمة لخيارات لم تُحقّق النجاح المؤمل منها.
الأجهزة الأمنية الإسرائيلية واكبت استراتيجية ترامب منذ تولّيه الرئاسة


في هذا الإطار، يبدو واضحاً أن ما حَفّز الاستخبارات الإسرائيلية على التوصية المشار إليها أعلاه، على رغم النتائج الاقتصادية التي تَرتّبت على استراتيجية «الضغوط القصوى» في الساحة الإيرانية، تسليمها بفشل تلك الاستراتيجية في تحقيق ما كان يؤمل منها. وسبق أن عبَّر عن ذلك أيضاً رئيس قسم الأبحاث في الاستخبارات العسكرية، العميد درور شالوم، في مقابلته الأخيرة مع صحيفة «يديعوت أحرونوت»، عندما أقرّ بأن خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي لم يخدم إسرائيل، مُقدّراً بأن إيران لن تركع نتيجة هذه الضغوط. والاستنتاج نفسه انسحب على «معهد أبحاث الأمن القومي»، الذي رأى أن إيران، مع نهاية ولاية ترامب، أصبحت أقرب إلى القدرة على إنتاج أسلحة نووية ممّا كانت عليه في بداية ولايته عام 2017. وعلى هذه الخلفية، تأتي توصية الاستخبارات بضرورة تعزيز العلاقات مع الأنظمة العربية؛ كونها تخدم الاستراتيجية الإسرائيلية المتعدّدة المسارات في مواجهة إيران، على المستويات السياسية والأمنية والعملانية.
وفي هذا السياق، أوضحت جهات مسؤولة في الأجهزة الأمنية أنه على المستوى السياسي، فإن تطبيع العلاقات مع «دول سُنّية عربية» على قاعدة المصالح المشتركة سيزيد فعالية توحيد الرسائل في مواجهة إيران. وهو ما ستكون تل أبيب أحوج إليه في مرحلة ما بعد ترامب، وتحديداً في ضوء إعلان الرئيس الأميركي المنتخَب، جون بايدن، العودة إلى الاتفاق النووي، ولو بصيغة معدَّلة، حيث ستحاول الأطراف «المتضرّرة» التأثير في موقف الإدارة الجديدة، بالاستناد أيضاً إلى جهات ضاغطة في الداخل الأميركي، على أمل إقناعها بالالتزام بسقوف محدّدة في أيّ اتفاق جديد. وأضافت الجهات الأمنية إن تعزيز العلاقات مع تلك الدول سينعكس على فعّالية العمل الاستخباري الذي يُشكّل عاملاً حاسماً في حرب الظلال الدائرة بين إيران وحلفائها، في مقابل إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما. ولفتت إلى أن إيجابيات التطبيع تشمل أيضاً المستوى العملاني، كونه يخدم «طرق العمل» التي قد تحتاج الأجهزة التنفيذية التابعة لكيان العدو إلى تعزيزها وتوسيع نطاقها. واللافت أن موقع «واللا» وضع عملية اغتيال رئيس مركز البحوث العلمية في وزارة الدفاع الإيرانية، العالم النووي محسن فخري زادة، في السياق المتقدّم، معتبراً أن اغتياله أكد أهمية متابعة المعلومات التفصيلية الصغيرة التي تحتاج إليها الاستخبارات لتنفيذ ضربات كهذه.
تجدر الإشارة إلى أن الأجهزة الأمنية واكبت استراتيجية ترامب منذ تولّيه الرئاسة، وهو ما أكده موقع «واللا»، لافتاً إلى أنه «منذ عام 2017، تشابكت أيدي الموساد برئاسة يوسي كوهين، والاستخبارات العسكرية برئاسة اللواء هرتسي هليفي (آنذاك)، وعملا على دفع عدّة مسارات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية ضدّ الجهد المثلث لإيران، ليس فقط ضدّ البرنامج النووي الإيراني، وإنما أيضاً للردّ على كامل التهديدات الإيرانية». وتساوق التنسيق الاستخباري الإسرائيلي مع استراتيجية إدارة ترامب الذي بدأ ولايته في العام نفسه، وركَّزت إدارته على مواجهة الجهود الإيرانية الأساسية الثلاثة: البرنامج النووي، تعاظم الوسائل القتالية التقليدية المتطورة، وبشكل خاص الصواريخ الدقيقة، إضافة إلى التمركز العسكري في المنطقة، وأيضاً دعم الحلفاء في المنطقة الممتدّة من أفغانستان والعراق، مروراً باليمن، وصولاً إلى سوريا ولبنان وفلسطين.
مع ذلك، ما ينبغي تأكيده هو أن التقديرات والتوصيات التي كشف عنها ليست سوى جزء يسير من الجهود والمداولات التي من المؤكد أنها جرت وتجري في ظلّ التحوّلات التي شهدتها وتشهدها بيئة إسرائيل الاستراتيجية. والخلاصة الأهمّ التي لم يكشف عنها حتى الآن هي السيناريوات التي تُرجّحها الأجهزة الاستخبارية لمستقبل التطوّرات، وتوصياتها إزاء التحدّيات التي ستواجه الاستراتيجية التي ستعتمدها القيادة الإسرائيلية في مواجهة تحالف قوى المقاومة، بدءاً من عمقها الاستراتيجي في طهران، وصولاً إلى «حزب الله» في لبنان.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا