في مقالته المرجعية، المنشورة في عدد آذار/ مارس - نيسان/ أبريل الماضي من مجلة «فورين أفيرز»، يؤكّد الرئيس الأميركي المنتخَب، جو بايدن، أن «الوقت قد حان لإنهاء الحروب الأبدية». وهو يشدّد بالتالي على ضرورة سحب «الغالبية العظمى» من القوات الأميركية من غرب آسيا، وخاصة أفغانستان، وتحديد مهمّة الولايات المتحدة في هذه البقعة من العالم في إطار الانكباب على «مكافحة الإرهاب». يعترف بايدن بأن صراعات لا يمكن كسبها إنما «تستنزف قدرتنا على القيادة في قضايا أخرى تتطلّب اهتمامنا، وتمنعنا من إعادة بناء الأدوات الأخرى للقوّة الأميركية».اكتفى الرئيس الأميركي المقبل بتحديد الخطوط العريضة لسياسة إدارته إزاء أفغانستان، معلناً اعتزامه البقاء في هذا البلد تحت مسمّى «مكافحة الإرهاب»، من دون الخوض في تفاصيل حجم الحضور الأميركي الذي حدّده دونالد ترامب، أخيراً، بـ2,500 عسكري، بعد قراره سحب ألفي جندي إضافي بحلول موعد تنصيب خليفته. القرار الذي أتى في أعقاب هزيمته الانتخابية، يهدف إلى وضع بعض العراقيل في طريق الإدارة المقبلة، ونسف خططها للعودة بقوة إلى المنطقة تحت عناوين عفا عليها الزمن، في موازاة الإيحاء بأنه لم يخلف بوعده إنهاء الحرب الأفغانية الذي تُرجم في وثيقة المصالحة مع حركة «طالبان» في نهاية شباط/ فبراير من العام الجاري.
ربّما يكتفي بايدن بوجود عسكري أميركي يقتصر على 2,500 عسكري في أفغانستان


واشترط الاتفاق بين واشنطن و»طالبان» أن تلتزم الإدارة الأميركية جدولاً زمنياً للانسحاب (سرّعه ترامب)، يمضي قدماً في موازاة تقدُّم المفاوضات الأفغانية الداخلية. وكونه اتفاقاً غير مُلزم، يبقى احتمال أن تعيد الإدارة المقبلة التفاوض في شأنه أو أن تطلب إدخال تعديلات في متنه، قائماً ومرجّحاً، خصوصاً في ظلّ إصرار بايدن على استعادة زمام «القيادة» العالمية. وتلك احتمالات ربّما تؤدّي إلى تطيير الاتفاق، في ما لو اقتضى أحد الشروط الجديدة الإبقاء على قوات أميركية في إطار «مكافحة الإرهاب» في أفغانستان. الانسحاب الكامل للجيوش الأجنبية شكّل أساس المفاوضات، ولاحقاً الاتفاق بين الحركة وإدارة ترامب، على رغم اعتراض حكومة أشرف غني التي سعت إلى وضع عراقيل أمام تطبيق بنوده، أولاها المماطلة في تنفيذ بند تبادل الأسرى لتأخير التئام طاولة المفاوضات، وتالياً تأخير الانسحاب الأميركي. وبعد مضيّ نحو ثلاثة أشهر على انطلاق المفاوضات الأفغانية في العاصمة القطرية، الدوحة، بات ممكناً الانتقال إلى المرحلة التالية، بعد الاتفاق على قواعد المحادثات. وفي حين أن الاتفاق لا يتجاوز تحديد الإجراءات الكفيلة بعقد المزيد من المناقشات، فإنه يُعتبر خطوة مهمّة لكونه يسمح للمفاوضين بالانتقال إلى بحث القضايا الرئيسة. وجاء الاتفاق المتواضع استجابةً لضغوط مارسها وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، الذي دعا في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، إلى تسريع مفاوضات السلام. دعوةٌ جاءت بعد أيام قليلة من إعلان وزارة الدفاع، «البنتاغون»، أنها ستسحب نحو 2,000 جندي من أفغانستان بحلول منتصف كانون الثاني/ يناير، أي قبل خمسة أيام من تنصيب بايدن، لتسريع الجدول الزمني المحدَّد في اتفاق شباط/ فبراير بين واشنطن و»طالبان»، والذي ينصّ على انسحاب كامل بحلول منتصف 2021. في هذا الإطار، ترى فاندا فلباب-بروان، من «بروكينغز إنستيتوشن»، أن بايدن ربّما يكتفي بوجود عسكري أميركي يقتصر على 2,500 عسكري. و»إذا أرادت الولايات المتحدة البقاء لأشهر قليلة، يمكن لحركة طالبان أن تتقبّل ذلك»، لكن إن أرادت واشنطن المحافظة على قوّات في أفغانستان لسنوات عديدة «فلن ترضى (الحركة) بذلك»، ما سيدفع الوضع إلى النقطة الصفر. في المقابل، تخشى حكومة كابول أن يؤدي إعلان الانسحاب إلى تشدُّد أكبر للحركة على طاولة المفاوضات، إذ تدرك الأخيرة أن الأميركيين سيغادرون تاركين وراءهم حليفاً ضعيفاً ومحاصَراً لا خيارات سياسية وعسكرية كثيرة أمامه.
إعلان الانسحاب الذي جاء بعد مرور عشرة أيام على إقالة ترامب وزير دفاعه، مارك إسبر، الذي كان يصرّ على إبقاء 4500 جندي أميركي في أفغانستان لدعم الحكومة خلال محادثات السلام مع حركة «طالبان»، لم يأبه بتحذيرات الحلفاء والمسؤولين الأميركيين القلقين من أن يُضعف خفض عديد القوات الحكومة الأفغانية. وقبل تعيين كريستوفر ميلر وزيراً للدفاع بالوكالة، كان كبار القادة العسكريين في «البنتاغون» يؤكدون أن «طالبان» لم تفِ بالتزاماتها في ما يتعلّق بتقليص هجماتها على القوات الحكومية، وأن خفضاً جديداً لعديد القوات الأميركية سيخفّف الضغوط عن الحركة في المفاوضات. وفي إطار رفض الخطوة، حذّر زعيم الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ الأميركي، السناتور ميتش ماكونيل، من مغبّة تسريع وتيرة الانسحاب الأميركي من أفغانستان، لأن من شأن إجراء كهذا أن يهدي الحركات الإسلامية المتطرّفة «نصراً دعائياً عظيماً»، وأن يؤدي إلى ما يشبه «الانسحاب الأميركي المذلّ من فيتنام» عام 1975. من جهته، حذّر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، من أن انسحاباً متسرّعاً للحلف سيكون «ثمنه باهظاً جداً» مع خطر تحوّل هذا البلد «مجدّداً إلى قاعدة للإرهابيين الدوليين». لكن القلق هذا سيتبدّد سريعاً بحلول ظهر الـ20 من كانون الثاني/ يناير المقبل، حين يقسم بايدن اليمين الدستورية، وتنتهي، نظرياً، حقبة ترامب. مع ذلك، فإن آمال الرئيس المنتخب وحديثه عن «عودة الولايات المتحدة لتأكيد دورها التاريخي كزعيمة للعالم»، وطيّ صفحة سياسات «أميركا أولاً»، دونها الكثير من الوهم.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا