على خلفية اللاثقة بين مكوّنات الائتلاف الحكومي في إسرائيل، وكذلك اللاتفاهم شبه الكلّي وتأثيرات المصالح الشخصية، صَوّت «الكنيست»، بالأغلبية، على حلّ نفسه، والتوجّه إلى انتخابات عامّة مبكرة، هي الرابعة من نوعها خلال عامين. وأيّد خطوةَ الحلّ الشريكُ في الائتلاف، حزب «أزرق أبيض» برئاسة وزير الأمن بني غانتس، بعدما تَعذّر عليه إلزام رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، تنفيذ أهمّ ما في اتفاق الشراكة، وهو التناوب على رئاسة الوزراء، ما يُفقد غانتس سبب شراكته مع شخص نتنياهو الذي وصفه بـ»الكاذب» الذي تَسبّب بالانقسام السياسي في إسرائيل، وإن تظاهر بأنه معنيّ باستمرار حكومة الوحدة.فما الذي تعنيه هذه الخطوة التشريعية؟ وماذا عن قدرة رئيس الحكومة على اتخاذ القرارات السياسية والأمنية في مرحلة مشبعة بالتحدّيات؟ وهل تُولّد الانتخابات، إن حصلت، خريطة سياسية جديدة داخل «الكنيست»، وتبعاً لها في الحكومة؟ والأهمّ، هل تنهي هذه الخطوة حقبة نتنياهو، الذي تجاوز إلى الآن كلّ الصعوبات التي واجهته، من دون أن ينجح خصومه في إسقاطه حتى مع استغلال اتهامه الجنائي بالفساد والرشى؟
بداية، وعلى رغم أن أغلبية «الكنيست»، بمَن فيها شركاء في الائتلاف الحكومي، صَوّتت على حلّه، إلا أن هذا لا يعني أن قانون الحلّ بات نافذاً. إذ إن التصويت الذي حصل أمس هو تصويت تمهيدي، يجب أن تتبعه ثلاث عمليات تصويت، تُسمّى بـ»القراءات الثلاث». وعليه، فإن نتنياهو قادر، إن اراد، على إيجاد تسوية ما مع «أزرق أبيض»، يفرمل من خلالها حلّ «الكنيست»، وتبعاً له إسقاط الحكومة. لكن ذلك لا يتوافق مع مصلحته الشخصية، وخاصة أن في نيّته، كما يتسرّب عنه، إسقاط الحكومة قبل انتقالها إلى غانتس وفقاً لاتفاق التناوب على رئاستها. يعني هذا أن الحكومة باقية كما هي إلى حين إقرار حلّ «الكنيست» بالقراءة الثالثة، والذي يبدو غير حتمي وخاضعاً للأخذ والردّ بين الأطراف، وإن كان مسار الحلّ قد انطلق بالفعل، ويصعب تصوّر إيقافه وفقاً للمعطيات الحالية. وفي حال تحقُّق التسوية، فستكون بمثابة تأجيل للخلاف، وإيجادٍ لأرضية مشتركة تدار عليها الأزمة إلى موعد آخر، لا يتجاوز شهر آذار/ مارس المقبل، حيث سيتوجّب على الحكومة إمرار قانون الموازنة، بما يضمن لغانتس ترؤّس مجلس الوزراء بموجب مبدأ التناوب. لكن في حال امتناع نتنياهو عن إقرار الموازنة، فإن الحكومة ستسقط تلقائياً، وهي الحالة الوحيدة التي تكفل للأخير البقاء رئيساً للوزراء وفق الاتفاق الائتلافي، إلى أن تجرى الانتخابات. إلا أن السيناريو المتقدّم لا يمكن لنتنياهو القبول به، كونه يعني إسقاطه من رأس الهرم السياسي، مع صعوبة لاحقة في عودته إلى المنصب الذي يحفظ له حصانة من سجنه على خلفية محاكمته.
أمّا في حال حلّ «الكنيست» بالقراءات الثلاث والتوجّه إلى انتخابات مبكرة، فالواضح أن أكبر الخاسرين سيكون الثنائي غانتس وزميله في «أزرق أبيض»، وزير الخارجية غابي أشكنازي. إذ تُظهر استطلاعات الرأي تراجع حزبهما إلى ما دون عشرة مقاعد في «الكنيست» إن جرت الانتخابات الآن، ما يعني تعذّر تكرار مشهد المنافسة على رئاسة الحكومة المقبلة بين غانتس ونتنياهو، حتى لو اجتمعت مقاعد الوسط واليسار و»القائمة العربية» وكذلك مقاعد حزب أفيغدور ليبرمان، «إسرائيل بيتنا»؛ بالنظر إلى أن استطلاعات الرأي لا تمنح هؤلاء مجتمعين إلا ما يزيد قليلاً على خمسين مقعداً (من أصل 120). وهو عدد بعيد من أن يؤهّل غانتس أو غيره من الوسط لأن يكون منافساً لنتنياهو واليمين عموماً. أيضاً، حزب ليبرمان، الذي دائماً ما عُدّ «بيضة القبان» في ما يتعلّق بتأليف الحكومة، سيسقط هذه المرّة، وسيكون حزباً يوازي في حضوره استحقاقه الانتخابي وتمثيله الفعلي في الخريطة السياسية.
تُقدّر استطلاعات الرأي تقلّص الفرق بين «الليكود» و»يمينا» إلى أقلّ من أربعة مقاعد


في التقديرات العامة، وفقاً للاستطلاعات، يتراجع الوسط واليسار كثيراً في الانتخابات المقبلة: حزب غانتس إلى ما دون عشرة مقاعد، و»يش عتيد» إلى 18 مقعداً، و»القائمة العربية» إلى 12؛ وفيما يحافظ ليبرمان تقريباً على حجمه التمثيلي بثمانية مقاعد، ينال حزب «ميرتس» الذي يُمثّل وحيداً اليسار خمسة مقاعد. أمّا حزب «العمل» فلا يتجاوز العتبة الانتخابية، إضافة إلى كثير من الأحزاب الأخرى الشبيهة به. مع ذلك، لن تكون رئاسة الحكومة سهلة المنال بالنسبة إلى نتنياهو؛ إذ إن المنافسة داخل معسكر اليمين بدأت من الآن، وقبل التوجّه إلى حلّ «الكنيست»، وتحديداً مع زعيم حزب «يمينا»، وزير الأمن السابق نفتالي بينت، الذي يطمح إلى أن يتولّى هو رئاسة الحكومة على حساب نتنياهو وحزب «الليكود». وتُقدّر استطلاعات الرأي تقلّص الفرق بين «الليكود» و»يمينا» إلى أقلّ من أربعة مقاعد، ما يعني أن طموح بينت بات مشروعاً أكثر وغير مستبعد تحقّقه، وخاصة إن استطاع إيجاد أرضية مشتركة مع الأحزاب الدينية، وجزء من أحزاب الوسط.
على أن الصعوبة التي يمثّلها بينت لنتنياهو، ليست مرتبطة فقط بالتنافس على أصوات الناخبين من اليمين لتجاوز عدد مقاعد «الليكود» نفسه، بل في قوّته العددية التي تظهرها التقديرات لـ»الكنيست» المقبل، حتى من دون تجاوز حصة «الليكود»، وهو ما يؤدي إلى رفع ثمن انضمامه إلى ائتلاف مع نتنياهو لتأليف الحكومة، بما يتعذّر على الأخير تلبيته. ومن الآن، رفع بينت ذلك الثمن، بإعلانه قبل التصويت على حلّ «الكنيست» أمس أنه لا يستطيع إعطاء إجابة حول مشاركته في ائتلاف بقيادة نتنياهو، لافتاً في مقابلة مع موقع «واللا» العبري إلى أنه لم تعد هناك كتلة يمينية بعدما فَكّكها نتنياهو بمعية الأحزاب الدينية، الأمر الذي يشير إلى أن حملته الانتخابية ستُركّز على جذب ما أمكن من أصوات يمينية من «الليكود» والأصوليين، في محاولة طموحة لتجاوز عدد مقاعد «الليكود» في الكنيست المقبل، وتبعاً لذلك تلقي التكليف بتأليف الحكومة بدلاً من نتنياهو وحزبه. المفارقة أن هذا الطموح لا يبدو متطرّفاً؛ إذ إن استطلاعات الرأي المنشورة تباعاً في الفترة الأخيرة تشير إلى نجاح بينت في زيادة عدد مقاعد التكتل الذي يقوده، «يمينا». وفي آخر استطلاع للرأي نشر أمس في صحيفة «معاريف»، يتبيّن أن يمينا سيفوز بـ 23 مقعداً في «الكنيست» المقبل، مقابل 29 مقعداً لـ»الليكود»، علماً بأن عدد مقاعده في «الكنيست» الحالي لا يتجاوز خمسة مقاعد من أصل 120.
بالنتيجة، لا يبدو الطريق مُعبّداً أمام نتنياهو، سواء في الفوز برئاسة الحكومة المقبلة، أو بتشكيل ائتلاف مريح له، حتى ضمن كتلته اليمينية الأوسع. ووفقاً للتقديرات، ستكون نتائج الانتخابات المقبلة أكثر تعبيراً عن توجّهات الجمهور الإسرائيلي، وتحديداً عن يمينيّته. ويكفي للاستدلال على ذلك أن حزب «ميرتس»، الذي يُمثّل فعلياً اليسار، يُقدّر له أن يفوز بخمسة مقاعد فقط، وهو تمثيل لا يبتعد كثيراً عن الدقة. في الوقت نفسه، ما لم تحصل توليفات وائتلافات من شأنها إنقاذ حزب «العمل» من السقوط، ولو من خلال الفوز بمقعد واحد، فستكون هذه سابقة قد تعني سقوط «العمل» من الحلبة السياسية في إسرائيل، على رغم أنه يُعدّ خليفة حزب «مباي» الذي كانت له اليد الطولى في تأسيس الكيان والاستيطان في فلسطين الكبرى، وقيادة معظم حروب إسرائيل وانتصاراتها على الحكام العرب.
تبقى الإشارة إلى أهمّ ما يمكن أن ينتج من تبعات في حال حلّ «الكنيست» والتوجّه إلى انتخابات مبكرة، وهو قدرة الحكومة في المرحلة الانتقالية على اتخاذ قرارات، وخصوصاً في ما يتعلّق بتوجّهات إسرائيل الخارجية، سياسياً وأمنياً وعسكرياً. إن ثَبتت المعطيات الحالية ولم تطرأ عليها تغييرات، يترأس نتنياهو الحكومة الانتقالية، بكامل الصلاحيات، إلى حين تسلّم خليفته المنصب وفقاً لنتائج الانتخابات، التي يُرجّح أن يكون هو الفائز بها أيضاً. وللحكومة الانتقالية ورئيسها ومجلسَيها الوزاري المصغّر والموسّع كامل الصلاحيات في اتخاذ المواقف والقرارات والمبادرات، السياسية والعسكرية، تماماً كما لو أنها حكومة غير انتقالية، الأمر الذي يخالف الانطباعات التي تراود البعض قياساً إلى المعتاد في دول وكيانات أخرى. بالتالي، ستظلّ لدى نتنياهو القدرة على المبادرة السياسية والأمنية كما لو أنه رئيس أصيل لا انتقالي للحكومة، وإن مع تفصيلات اعتبارية قد تسقط أمام مصالحه الشخصية في كسب مزيد من أصوات اليمين ومنع انزلاقها إلى خصومه من المتربّصين به في كتلته اليمينية الأوسع.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا