على الرغم من أنّ التطوّرات المتسارعة في أنحاء المعمورة تؤشّر إلى تراجع مستمرّ في موقع الولايات المتحدة كقطب مهيمن على المستوى الدولي، وصعود متسارع لقوى دولية وإقليمية غير غربية، وانتشار مطّرد لنزاعات وتوترات في بقاع تنحسر عنها السيطرة الأميركية، فيما أفرقاؤها الرئيسون «قادمون جدد»، إلا أن تحليلات كثيرة، وخاصة عربية، مصرّة على أن واشنطن ما زالت تتحكّم بالتطوّرات المذكورة إلى درجة كبيرة. لا تستطيع هذه التحليلات أن تفسّر كيف فشلت الأخيرة، مثلاً، في منع رفع حظر التسليح عن إيران في مجلس الأمن عبر عجزها عن إلزام حلفائها التقليديين بالاصطفاف خلفها. من المفترض أن تدفع هذه الهزيمة السياسية والدبلوماسية، وتداعياتها على المواجهة المديدة بين واشنطن وطهران، أصحاب تلك التحليلات، إلى التساؤل حول ما يعنيه العجز الأميركي عن مثل هذا الإلزام، وما يكشفه عن واقع هيمنة تدخل في طور الضمور. أحداث أخرى كان من الممكن أن تثير تساؤلات مشابهة، ومنها الصراعات الدائرة بين أطراف تسعى إلى ملء الفراغ الناجم في مناطق عدّة عن الانكفاء الأميركي، لكنها لم تفعل. بدلاً من ذلك، ما زال البعض جازماً بأن واشنطن تُحرّك خيوط اللعبة «من خلف الستار»، وبأنها تتحكّم تماماً بأفرقاء هذه النزاعات الإقليميين، وأن ليس لهؤلاء أجنداتهم الخاصة التي قد تدفعهم في حالات كثيرة إلى التناقض الواضح معها. هذا النقاش ليس ترفاً فكرياً؛ فهو يتعلّق بصراعات جارية حولنا - كالمعركة حول الغاز في المتوسط - ستكون لها مفاعيل مباشرة بالنسبة إلينا، ولكنه يساهم أيضاً في توضيح طبيعة التحوّلات التي يشهدها الوضع الدولي وخريطة تناقضاته الفعلية. القراءة الدقيقة لخريطة التناقضات، ولإمكانية الإفادة منها، تكتسب قيمة مضاعفة في سياق احتدام المجابهة بين محور المقاومة من جهة، والتحالف الأميركي - الإسرائيلي وأذنابه من ممالك وإمارات خليجية من جهة أخرى. وبطبيعة الحال، فإن الاستنتاجات التي قد يخلص إليها مَن يعتقد بدوام التحكّم الأميركي بمجريات الأحداث ستختلف إلى حدّ التناقض، مع تلك التي سيتوصّل إليها مَن يرى أن قدرة واشنطن على ذلك باتت في غاية الضعف، وأن «الملعب الدولي» أضحى يعجّ باللاعبين الذين يمتلكون أجنداتهم الخاصة ويتصارعون أو يتقاطعون وفقاً لها. انتهى نظام القطب الواحد، ولم يحلّ إلى الآن في مكانه نظام متعدّد الأقطاب، بل فوضى لاقطبية.
إن كان في ناغورني قره باغ حيث تَجدّد الصراع بين أرمينيا وآذربيجان، أو في منطقة شرق المتوسط التي ترتفع فيها حدّة التوتر بين أطراف «منتدى الغاز» (إسرائيل، مصر، الأردن، قبرص، اليونان، إيطاليا) المدعومة بحماسة منقطع النظير من فرنسا من جهة، وبين تركيا من جهة أخرى، وصولاً إلى ليبيا التي أصبحت ساحة لمجابهة بين ائتلاف يضمّ مصر والإمارات والسعودية وفرنسا وروسيا، وإلى حدّ ما إسرائيل، في مقابل تركيا، لا ينفكّ البعض يبحث عن «أصابع أميركية» تدير «اللعبة» الجارية. هكذا مثلاً، تصبح المساندة التركية لآذربيجان اندراجاً في المخطط الأميركي «الأزلي» لتفجير القوقاز في وجه روسيا. تصريح وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، منذ بضعة أيام، والذي تمنّى فيه أن «يتمكّن الأرمن من الدفاع عن أنفسهم»، لم يزعزع قناعات هذا البعض. لا يعني الكلام المتقدّم أن تركيا لا تتمنّى التقاطع مع الولايات المتحدة في ملف القوقاز وغيره، لكن «الرياح جرت بما لا تشتهيه»، والأهمّ أنها عندما قرّرت وجهة سياستها، لم تفعل بناءً على الأجندة الأميركية بل على أجندتها الخاصة. ما هو موقف واشنطن من المواجهة حول الغاز في المتوسّط؟ ومن مشروع أنبوب الغاز الذي سيمتدّ من مياه إسرائيل ومصر الإقليمية ويمرّ بقبرص واليونان، ويصل إيطاليا ليُزوّد أوروبا بالغاز، مُخفّفاً من اعتمادها على الغاز الروسي؟ وما هو موقف روسيا من المشروع المذكور؟ أسئلة مشابهة من الممكن طرحها حول النزاع في ليبيا، وعن الجهة التي تتمنى الولايات المتحدة هزيمتها، هل هي الائتلاف المشار إليه والذي يجمع بعض أوثق حلفائها؟
المنظور التبسيطي الذي يقسم العالم إلى معسكرين: حلفاء الولايات المتحدة أيام الحرب الباردة، وأعداؤها أو بالأصحّ منافسوها، لن يتيح الإجابة عن هذه الأسئلة. يقترح روبرت كابلان، الحائز مقعدَ الجيوسياسة في «مركز دراسات السياسة الخارجية»، والذي عمل مستشاراً في وزارة الدفاع الأميركية بين عامَي 2009 و2012، في مقال لافت نشره على موقع «ذي ناشيونال أنترست» بعنوان «الحياة الأخرى للإمبراطوريات»، قراءة مختلفة للسياق الدولي الحالي. هو يعتبر أن هذا الأخير يشبه - بِقَدْر كبير - ذلك الذي تلا الحرب العالمية الثانية، وشهد تفكّك الإمبراطوريتين الاستعماريتين الفرنسية والبريطانية وانهيارهما، وتنازعاً عنيفاً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي على تركتهما. الفارق بين هذه الحقبة وتلك السابقة هو أن الولايات المتحدة تواجه انحساراً، وليس بعد انهياراً كاملاً لإمبراطوريتها، وأنها أمام «منافسة محمومة» مع لاعبين جدد غير غربيين، يتنافسون بين بعضهم البعض أيضاً، ولا تُحفّزهم الأيديولوجيا بل التطلّع إلى توسيع رقعة النفوذ والتأثير. وهو تطلّع ذو طابع «إمبراطوري» بحسب كابلان، الذي يصنّف روسيا والصين وتركيا والهند وإيران بين الدول العاملة على ترجمة ذلك على أرض الواقع.
للخبير الأميركي انحيازاته الأيديولوجية المعروفة، لكن توصيفه للديناميات التي تعتمل في المسرح الدولي تنطوي على درجة كبيرة من الدقة، وتسمح بإعطاء بعض الإجابات عن تساؤلات كتلك الواردة سابقاً، على عكس منظور «المعسكرَين» العاجز عن الإجابة. تتّسع رقعة الفوضى في العالم. وعلى رغم السلبيات الكثيرة الناتجة من ذلك، إلا أن هذا التطور يبقى أكثر إيجابية بالنسبة إلى الشعوب المستضعفة وحركات المقاومة، ويزيد من هامش مناورتها وقدرتها على استغلال التناقضات بين القوى العظمى والمتوسّطة لتحقيق تطلّعات شعوبها، التي باتت محرومة من أبسط مقومات البقاء.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا