النقاش الدائر في فرنسا حول مشروع قانون «النزعات الانفصالية»، والذي يستهدف «الإسلام الأصولي المتشدّد»، يُسيل الكثير من الحبر. على مستوى المفاهيم المستخدمة، فإن استبدال «نزعة انفصالية» بـ»عصبية»، بحسب إيمانويل ماكرون، غايته المزيد من الدقة في توصيف السلوكيات الإشكالية. بالنسبة إلى الرئيس الفرنسي، فإنّ وجود «جماعات» في إطار الجمهورية أمر ممكن، شرط احترامها قوانين الأخيرة. لكن في الواقع، لا يُمثّل استبدال المفهومَين تغييراً جوهرياً، لأنهما جزء لا يتجزّأ من الترسانة المفهومية المخصّصة للتحريض ضدّ المسلمين. للمفهومَين الوظيفة نفسها في النقاش العام الجاري حالياً، والخاضع لمنطق الثنائيات التبسيطي، لأنهما يسمحان بتصنيف وتمييز السلوكيات «الجيّدة» عن تلك «السيئة»، وكذلك الجماعات «المندمجة» عن تلك «غير المندمجة»، والمسلم «الطيّب» عن المسلم «الشرير».إضافة إلى ذلك، فإنّ الحديث عن «نزعة انفصالية إسلامية» فاقد للمعنى، لأنه غير مطابق للوقائع الاجتماعية - السياسية. فالنزعة الانفصالية تُعبّر عن إرادة مجموعة ما في القطيعة مع الجماعة الوطنية، وتشكيل كيان سياسي وقانوني منفصل عنها. لا وجود لأيّ تنظيم إسلامي، كبير أو صغير، يعمل للسيطرة على منطقة معيّنة في فرنسا أو للانفصال عن الجمهورية. وقد أظهرت التحقيقات عن عمليات العنف التي وقعت في فرنسا أن الأشخاص المتورّطين فيها كانوا معزولين عن محيطهم الاجتماعي المحلّي، وينتمون إلى مجموعات سرّية مغلقة. وعلى الرغم من إعلان وزير الداخلية، جيرالد دارمانان، إمكانية التخلّي عن مفهوم «الانفصالية»، بسبب عاصفة الانتقادات التي أثارها، واعتماد تعبير «مشروع قانون لتعزيز العلمانية والمبادئ الجمهورية» بدلاً منه، فإن هذا الإعلان لم ينجح في حجب المرتكزات الأيديولوجية للقانون المذكور.
في خطابه الشهير، دان رأس الدولة تحوّل بعض الأحياء الشعبية الى «غيتوات». «لقد قمنا بتجميع السكان في بعض الأحياء وفقاً لأصولهم، ولم نسعَ إلى تشجيع الاختلاط بشكل وافٍ، ولا لتأمين شروط الترقّي الاقتصادي والاجتماعي. وقد استغلّت الجماعات الإسلامية تردّدنا وتراجعاتنا للتأسيس لمشروعها الساعي إلى السيطرة الكاملة في نهاية المطاف»، قال ماكرون. يستند هذا الموقف الى أطروحة الأستاذ الجامعي الفرنسي، برنار روجييه، الذي تَحوّل أخيراً إلى مبشّر أيديولوجي بكلّ ما للكلمة من معنى. أشرف روجييه على إصدار كتاب جماعي بعنوان «الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسلاموية» في كانون الثاني/ يناير 2020، يعتبر فيه أن «منظومة بيئية إسلامية» باتت تحكم بعض الأحياء الشعبية في فرنسا. يشير روجييه إلى ما يمثّل بنظره شبكة من الجمعيات الثقافية وأماكن العبادة والمحال التجارية والمقاهي، والتي تساهم جميعها في إنتاج ثقافة مضادّة سلفية، رافضة للجماعة الوطنية ولقيم الجمهورية. ويرى المشاركون في الكتاب أن الإسلاميين المتشدّدين نجحوا في بلورة استراتيجية للسيطرة «تتميّز بمرونة تكتيكية عالية». تُجسّد هذه التحليلات استمرارية لفرضيات جيل كيبيل، الخبير السياسي الفرنسي المقتنع بأن صلات عضوية تجمع بين جميع تيارات الإسلام الأصولي السني، وخاصة بين التيارين السلفي والجهادي. يجزم كيبيل بأن «الإخوان المسلمين» و»حركة التبليغ» يُمثّلان في الكثير من الأحيان ممرّاً نحو الجماعات المتشدّدة، العازمة اليوم على التحكّم بالمدن الفرنسية، وهي فرضيات تخضع لنقد جادّ ومتزايد من العديد من الباحثين والخبراء.
يتجاهل روجييه، تماماً، وزن الإرث الاستعماري الفرنسي، وكذلك الإدارة الاستعمارية الحالية للسكان من ذوي الأصول المهاجرة، متغاضياً أيضاً عن الإسلاموفوبيا المؤسّسية، وعن طغيان التصوّرات السلبية عن الإسلام في الخطاب الإعلامي السائد، ويحاول تفسير رفض قيم المجتمع الفرنسي بعامل أحادي، هو انتشار الأيديولوجيا الإسلامية المتطرّفة الداعية إلى الانفصال. جيل كيبيل، من جهته، يذهب إلى أبعد من هذا الطرح؛ إذ لا يكتفي بتجاهل الدور البنيوي للعامل الاستعماري خلال محاولته تحليل سلوكيات جماعات لا تتبنّى الخطاب حول «قيم المجتمع الفرنسي»، بل يتعدّاه إلى إدانة أطروحات «ما بعد الاستعمار». ففي مقالة نشرها في مجلة «فالور أكتويل» اليمينية المتشدّدة في العاشر من الشهر الحالي، حيّا كيبيل رؤية ماكرون «الثاقبة» لإشكالية الانفصالية الإسلامية في فرنسا، مدّعياً بأن خطاب الرئيس «استند إلى ما توصّلت إليه الأبحاث الأكاديمية الأكثر دقة حول هذا الموضوع»، قبل أن يهاجم ما يسمّيه «وباء أيديولوجيا ما بعد الاستعمار». يدعو كيبيل إلى «إعادة الاعتبار للدراسات عن العالم الإسلامي المعاصر، والتي أضحت رهينة لأيديولوجيا ما بعد الاستعمار التي تُغيّب الظواهر الاجتماعية بدلاً من تحليلها، والتي تحتكر اليوم عملية تمويل الدراسات، وكذلك اختيار الأساتذة والباحثين والطلبة». يُلخّص الموقف المتقدّم روحية مشروع قانون ماكرون: نزع المشروعية عن جميع الساعين إلى التنظيم بشكل مستقلّ عن السلطات، وعن أصحاب الآراء النقدية حيال سياساتها، والتشكيك في صدقية خطاب ليس هناك نيّة أساساً للاستماع إليه.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا