منذ 27 أيلول/ سبتمبر الماضي، تَجدّدت المواجهات العسكرية بين أرمينيا وأذربيجان، في ناغورني قره باغ، جنوب القوقاز. وإن كان تجدُّد الصراع على هذه المنطقة، التي أعلنت استقلالها من طرف واحد واستمرّت باكو في اعتبارها جزءاً من أراضيها، حتمياً، فهو قد أفسح مجالاً لمناورات جيوسياسية من قِبَل القوى الإقليمية، وفي مقدّمتها تركيا.إذا تجاوزنا الأبعاد البنيوية لهذا الصراع الذي جرى تجميده لمدّة 36 عاماً، وهي أبعاد وثيقة الصلة بالحدود الموروثة عن الاتحاد السوفياتي والمتّسمة بطابع إثني واضح، فإن اللافت هو الاستقطاب الراهن الذي يُسبّبه، إذ إن دعم تركيا القويّ لأذربيجان يزيد من حدّة تناقضها مع روسيا حول ملفات أخرى كليبيا وسوريا، ولكنه يندرج أيضاً في إطار استراتيجية تفاوضية.
تأييد تركيا لأذربيجان يرتبط بطبيعة الحال بالعلاقات التاريخية بين البلدين، وما يجمعهما من مشتركات ثقافية ولغوية. وهما عزّزا، أيضاً، شراكة اقتصادية صلبة تسمح لهما بتصدير النفط من بحر قزوين نحو المتوسط، عبر أنبوب «باكو - تيبليسي - شيهان»، من دون المرور بالأراضي الروسية. إضافة إلى ذلك، فإن التعاون العسكري بينهما منذ عام 1992 تَطوّر باطّراد عبر السنين، حتى باتت أنقرة تتقدّم تل أبيب في تزويد باكو بالطائرات المسيّرة.
يرى إيغور دولانوي، نائب مدير «المرصد الفرنسي - الروسي»، أن توجّهات السياسة الخارجية التركية وطموحات الرئيس رجب طيب إردوغان بفرض تركيا كقوة إقليمية رئيسة هي ما يفسّر درجة انخراطها في الأزمة المحتدمة، بمعزل عن الديناميات الخاصة بهذه الأخيرة. «ثمّة إرادة لدى الأتراك بتعديل ميزان القوى مع روسيا لمصلحتهم. هم يستخدمون جميع الأدوات المتاحة في ناغورني قره باغ من أجل خلق وقائع جديدة والحصول على تنازلات روسية في ملفات أخرى»، يقول دولانوي.
ستفعل روسيا ما بمستطاعها لعدم التورّط في هذه الحرب والحفاظ على حياديّتها


يُحرج هذا الوضع روسيا، التي تريد الحفاظ على الستاتيكو الذي يحول دون تسوية الصراع، ويعيق توسّع السيطرة الغربية نحو ما تعتبره دائرة نفوذها الخاصة. من جهة، تساند موسكو أرمينيا، حيث تتواجد قاعدة روسية، وتنظر إليها على أنها جزء من الترسانة الجيوسياسية الروسية في القوقاز. لكن، من جهة أخرى «تغازل» روسيا أذربيجان، التي تبيع نفطها وغازها لأوروبا، وتستفيد من تقاربها مع تركيا للضغط على موسكو. «تبيع روسيا السلاح للبلدين، وتستغلّ تعاونها العسكري معهما منذ أكثر من 30 سنة للحفاظ على توازن دقيق وهشّ للقوى يتيح ديمومة الستاتيكو. غير أنها متّهمة بتزويد أرمينيا بأسلحة أكثر تطوّراً، كصواريخ أرض - أرض «إسكندر»، وأخيراً 4 طائرات «سوخوي إس. إم»، ما أثار غضب باكو. إذا استمرّت دينامية الصراع في التصاعد، قد تضطرّ موسكو إلى الانحياز العلني لأرمينيا ضدّ أذربيجان، وهو ما تريد تجنّبه حتى الآن»، من وجهة نظر دولانوي.
يريفان هي بالفعل عضو في «منظّمة معاهدة الأمن» التي أُسّست بمبادرة من موسكو خلال التسعينيات، والتي تجعل من روسيا ضامناً لوحدة أرمينيا الترابية. وتنصّ هذه المعاهدة على أنه، في حال وقوع العدوان على أيٍّ من أعضائها، يقوم الآخرون، وتحديداً روسيا (لأن قرغيزستان وطاجيكستان لا تشاركان إلّا بشكل متواضع في تدخلات عسكرية)، بالدفاع عنه. «إذا تَقدّمت أرمينيا بطلب للمساعدة العسكرية من شركائها في المنظمة، فإن روسيا ستُذكّر بعدم اعترافها باستقلال ناغورني قره باغ، وبأن هذه المنطقة جزء من أذربيجان. ستفعل ما بمستطاعها لعدم التورّط في هذه الحرب والحفاظ على حياديّتها. طالما لم يتخطَّ الصراع حدود أرمينيا المعترف بها، من السهل عليها التمسّك بهذا الموقف. لذلك، لا مصلحة لأذربيجان أو تركيا في مهاجمة الأراضي الأرمينية»، يؤكد دولانوي.
ووفقاً له، فإن المواجهة في جنوب القوقاز توفّر فرصة لتعاون أكبر بين روسيا وفرنسا، ولو أن الأولى، «في هذه المنطقة، ليست مستعدة لأن تمنح باريس، العضوة في مجموعة مينسك، دوراً أوزن في عملية حلّ الصراع. روسيا تريد أن تبقى المشرف الوحيد على اللعبة وقواعدها في ناغورني قره باغ». ولكن، وعلى الرغم من قضية المعارض الروسي أليكسي نافالني، وتأييد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للتظاهرات في بيلاروسيا، فإن فرنسا تحاول تعديل موقف أوروبا وإقناعها بحوار استراتيجي مع روسيا. «بنظر ماكرون، فإن الأزمة في بيلاروسيا دليل إضافي على ضرورة الحوار الاستراتيجي مع موسكو. الأمر نفسه ينسحب على ما يجري في ناغورني قره باغ، والذي يثبت أهمية الحوار في قضايا الأمن مع الجوار وفي مقدّمته روسيا»، يختم دولانوي. تَأجُّج التناقضات بين فرنسا وتركيا قد يحفّز باريس على توظيف الصراع في القوقاز للتقارب مع موسكو، التي تتقاطع معها إجمالاً في ليبيا وفي دعمها للقضية الأرمينية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا