لندن | فيما بدت كما إشارات حاسمة على عزم الرئيس البيلاروسي أليكسندر لوكاشينكو على الصمود ومواجهة «الثورة الملوّنة» التي تستهدف بلاده، فقد شهدت العاصمة مينسك وأماكن أخرى في الجمهورية تظاهرات مضادة لحراك أنصار السيدة سفيتلانا تيخانوفسكايا المستمر منذ حملتها الانتخابيّة نهاية تموز/ يوليو الماضي). ندّدت التظاهرات بالتدخّل الغربي ومحاولات الليبراليين المدعومين من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إسقاط النظام الأخير في أوروبا الشرقية الذي يتبنّى سياسة ملكيّة الدولة لوسائل الإنتاج لمصلحة استيراد «الديموقراطيّة» الغربية و»حرية السوق». وقد تحدث الرئيس لأحد هذه التجمعات بلهجة مفعمة بالتحدي، مستبعداً نهائياً فكرة إعادة الانتخابات الأخيرة، التي جددت له حتى عام 2025 بأغلبيّة تفوق الـ 80 في المئة، ومتهماً «الناتو» بتهديد سيادة البلاد عبر تحرّكات عسكرية ومناورات تجري حالياً في بولندا وليتوانيا المجاورتين، مؤكداً أن الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين تعهّد له بـ»مساعدة شاملة» لبيلاروسيا في حال تعرّضها لتهديدات عسكرية خارجية. وقد جالت قوافل سيارات مدرّعة تابعة للجيش البيلاروسي في العاصمة صباح العطلة الأسبوعية (الأحد الماضي)، فيما استقل الرئيس، مرتدياً زيّ شرطة حفظ الأمن، حوامة بوليس حلقت به في الأجواء.
وبينما تحدثت وسائل الإعلام الغربية المؤيدة حكماً لحراك المعارضة عن اعتقال حوالى 7000 من أنصار الثورة التي اختارت الأبيض لوناً لها، فإن الحزب الشيوعي البيلاروسي وصف الحراك بأنّه «محاولة انقلابية» ينفذها «عملاء مدرّبون على أيدي أجهزة استخبارات غربية ويمارسون تكتيكات عنيفة لاستفزاز الأجهزة الأمنية ونشر الفوضى» في إطار تحالف عريض يجمع بين قوى يمينية فاشية متطرفة، ومنظمات إجرامية، وليبراليين ينادون بتحرير الأسواق وخصخصة الصناعات التي يمتلك أهمها القطاع العام البيلاروسي. ويتقاطع موقف الحزب تجاه الحراك مع موقف السلطات. وحذّر بيان للجنة المركزية للحزب الستاليني الهوى من أن «نجاح انقلاب هذه الدمى الغربية سيغرق البلاد في لجّة فوضى دامية وستشهد تردياً شاملاً في الأوضاع» بعد تراكم لافت للنمو الاقتصادي منذ تولي الرئيس لوكاشينكو منصبه بداية عام 1994، وفق بيان اللجنة.
وكانت الاضطرابات قد تفاقمت قبل أسبوعين بعدما قالت شركة خاصة بالأبحاث إن استطلاعات الرأي لمن اقترعوا في الانتخابات الرئاسية تشير إلى تزايد احتمالات فوز حاسم للرئيس لوكاشينكو بأكثر من 80 في المئة من مجموع الأصوات، مقابل حوالى 10 في المئة لتيخانوفسكايا المرشحة التوافقيّة عن تحالف المعارضة. وعلى الرغم من أن النتائج الرسميّة لم تكن قد أعلنت حينها بعد، ولم ينجز سوى فرز 20 في المئة من أوراق الاقتراع، فإن تيخانوفسكايا سارعت إلى اتهام السلطات بالتزوير، وادّعت بأن تعداداً نزيهاً للأصوات سيمنحها 60 - 50 في المئة، علماً بأن النتائج النهائية منحت الرئيس الحالي فترة رئاسية جديدة ــــ بعد 26 عاماً بالسلطة من دون انقطاع – بعدما حصل على ثقة 80 في المئة من الناخبين. وكان لوكاشينكو قد حصل في انتخابات 2015 السابقة على 85.3 في المئة من الأصوات.
وبينما لجأت تيخانوفسكايا إلى ليتوانيا المجاورة، العضو في «الناتو»، اعتقلت السلطات مساعدة لها وأحد منظمي الإضراب في مصنع مينسك للتراكتورات مع حوالى 120 من أنصارها. وروّجت المعارضة لشائعات عن اعتقالات ينفذها رجال أمن بلباس مدني، كما سقوط قتيل واحد على الأقل، وهو ما اضطر وسائل الإعلام الغربية إلى نفيه لاحقاً رغم نقلها الخبر بداية على نطاق واسع، ما أثار موجة من الهلع في العاصمة خوفاً من اندلاع أعمال عنف بالأسلحة النارية. وتدير تيخانوفسكايا ما يسمى بـ»مجلس التنسيق لبيلاروسيا» وهو منظمة «مجتمع مدني» تضمّ وجوه المعارضة الليبرالية للنظام من أنصار سياسات الخصخصة وتحرير الأسواق. وتتلقى المنظمة الدعم السياسي (والمالي) من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
الصراع على السلطة بين الحرس القديم للنظام والمعارضة يبدو أقرب إلى «هجوم نيوليبرالي»


وقد أدانت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ما دعته بالشوائب التي شابت الانتخابات الرئاسية وعنف السلطات مع المتظاهرين. وأعرب الاتحاد الأوروبي عن شديد قلقه من أعمال القمع التي يتعرّض لها المعارضون على يد نظام لوكاشينكو، وأعلنت بروكسل أنها تنظر في مجموعة من العقوبات الموجهة ضد كوادر في النظام بعدما اعتبرت الانتخابات الرئاسية «غير حرّة ومفتقدة للعدالة». وهو ما أيّدته الجمهوريات السوفياتية السابقة الثلاث المجاورة التي انتقلت إلى صف «الناتو»: ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا.
المطّلعون على الوقائع في بيلاروسيا يشيرون إلى أن الصراع على السلطة بين الحرس القديم للنظام والمعارضة يبدو أقرب إلى «هجوم نيوليبرالي» محض على القطاع العام يستهدف بلاداً لا أوليغارشيّة فيها لتحميلها أخطاء مزعومة في إدارة الاقتصاد الكثيف التشبيك مع الاقتصاد الروسي. وينحدر أغلب المشاركين في أنشطة المعارضة من الطبقة الوسطى، وبخاصة جيل الشبان المتغرّب الثقافة، بينما تراقب الأكثريّة الأحداث بقلق من مترتبات الأزمة وآفاق المستقبل معاً. وقد بذلت المعارضة جهوداً لاستمالة العاملين في شركات القطاع العام الكبرى إلى الإضراب، الأمر الذي دفع الرئيس لوكاشينكو إلى التهديد بإغلاقها. وتبدو المعارضة على علاقة وثيقة باتحادات العمّال، المعروفة بفسادها، لكن التأييد لها بين العمّال أنفسهم ما زال محدوداً.
وعلى رغم رمادية تطبع سياسة النظام البيلاروسي الذي يتبع اقتصاداً هجيناً أقرب من دولة عمّال إلى رأسمالية الدولة الموروث من أيام الاتحاد السوفياتي السابق، ومحاولة لوكاشينكو «اللعب بين الإمبرياليات» (قوات بريطانية تدرّب الجيش البيلاروسي مثلاً)، فإن الأمر لا يحتاج إلى كثير من التحليلات لتصنيف الحراك المعارض الحالي تحت بند «الثورات الملوّنة»، سواء لناحية الكوادر القائمة به، أو لنوعية التغييرات التي تسعى لتنفيذها حال تسلّمها السلطة، أو الجهات الخارجية التي تدعمه، ناهيك عن التكتيكات اليومية المتدحرجة على الأرض، والتي رأيناها تنقل بحذافيرها عن ثورات بولندا وصربيا وأوكرانيا... وغيرها.
على أن الصراع في مينسك قد لا يحسم بالفعل إلا من موسكو. فلا أحد في الكرملين يرغب في تكرار السيناريو الأوكراني المرير، رغم مسارعة روسيا وقتها إلى استعادة جزيرة القرم وضمّها. إذ إن الأقلّية الروسية في شرق أوكرانيا تكبّدت خسائر فادحة في الأرواح (20 ألفاً على الأقل) والممتلكات، وما زالت جمهوريتها المعلنة من طرف واحد (دونستك) تتعرّض دورياً لاعتداءات قوات النظام اليميني في أوكرانيا، والذي اختطف السلطة إثر انقلاب ضد الحكومة المنتخبة اتخذ شكل ثورة ملوّنة كلاسيكيّة (2004 – 2005). لكن حسابات بوتين أوسع عادة من حوادث الإقليم ويحتمل بدرجة ما أنها لا تمانع بالتخلّص من حليف (أثريّ) يحاول اللعب بالورقات الثلاث من وراء ظهر روسيا الأم، ولا سيما أن الرئيس الروسي ليس من هواة شركات القطاع العام، وهو نادراً ما استعمل سياسة الحسم في مواجهة الثورات الملوّنة باستثناء تلك المحاولة الباهتة لإطلاق واحدة منها داخل عرينه دفنت في مهدها. وبدون دعم صريح من «القيصر»، فإن لوكاشينكو سيكون مضطراً إلى خوض معركة حقيقية دفاعاً عن نظامه في وجه معارضة ثملة بالدعم الخارجي. معركة سيدفع الشعب البيلاروسي وحده ثمنها، بغض النظر عن الطرف المنتصر فيها.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا