إحدى المهام الأساسية التي حدّدها المرشّح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأميركية، جو بايدن، لنفسه، في حال فوزه، هي إعادة بناء السياسة الخارجية لبلاده. ففي مقال نشره في عدد آذار/ نيسان من “فورين أفيرز”، رأى بايدن أن “الرئيس ترامب استهان بحلفاء الولايات المتحدة وشركائها، وأضعفهم وتَخلّى عنهم في بعض الأحيان... لقد جرّأ خصومنا علينا، وبَدّد قدرتنا على مواجهة تحدّيات لأمننا القومي من كوريا الشمالية إلى إيران، ومن سوريا إلى أفغانستان، من دون نسيان فنزويلا. وهو قد شنّ حروباً تجارية غير محسوبة النتائج ضدّ أعداء الولايات المتحدة وأصدقائها، أَضرّت بمصالح الطبقة الوسطى الأميركية، وتنازل عن قيادة بلادنا للجهد الجماعي المطلوب للتصدّي لتهديدات جديدة، خاصة تلك التي برزت في هذا القرن”. بعد هذا التقييم لسياسة منافسه الخارجية، يستعرض بايدن الخطوات التي ينوي اتخاذها لتصحيح المسار، وتمكين بلاده، عبر إحياء تحالفاتها ودورها القيادي، من التعامل مع الخطر الأهمّ على موقعها الريادي في رأس هرم النظام الدولي، وهو الصين. يقول المرشح الديمقراطي: “تُمثّل الصين تحدّياً فريداً. لقد أمضَيْت ساعات طويلة مع قادتها، سمحت لي بفهم حقيقة مَن يقف في مقابلنا. تراهن الصين على المدى الطويل على سعيها لتوسيع دائرة تأثيرها، والترويج لنموذجها السياسي والاستثمار في تكنولوجيات المستقبل... الأسلوب الأفعل لمواجهة هذا التحدّي هو بناء جبهة موحّدة مع حلفاء الولايات المتحدة وشركائها للتصدّي لسلوك الصين التعسّفي وانتهاكاتها لحقوق الإنسان”. يتّضح من المقال الذي يتطرّق إلى العديد من الموضوعات والذي يتضمّن كذلك بعداً أيديولوجياً واضحاً، أن مقاربة بايدن للوضع الدولي مطابقة لتلك التي طرحها الرئيس السابق باراك أوباما، في خطابه الشهير عن الاستدارة نحو آسيا، وأن الأولوية التي ستحكم سياسة بلاده الخارجية هي احتواء صعود الصين. تترتّب على هذا الأمر استعادةٌ للمنطلقات العامة لسياسة أوباما حيال الشرق الأوسط، مع تعديلات في تفاصيلها تأخذ في الاعتبار التغييرات الكبرى التي جرت في الإقليم والعالم منذ تلك الفترة، بهدف التوصّل إلى ترتيبات وتسويات قد تكون ظرفية، لتُركّز واشنطن على “أمّ معاركها” مع بكين.
يدرك بايدن وفريقه أن التوصّل إلى صيغة جديدة ومعدّلة للاتفاق النووي لن يكون سهلاً

على خطى أوباما، سيعود بايدن إلى منطق “فكّ الاشتباك” مع إيران. تجنّب التورّط في سياسات تصعيدية كتلك التي تعتمدها إدارة ترامب، والتي يٌحتمل أن تتدحرج إلى حرب كبرى يريدها جناحها الأيديولوجي - العقائدي، سيكون مهمة مركزية بالنسبة إلى مَن يبغي التفرّغ لصراع شاقّ ومكلف مع قوة كالصين. مصادر على صلة بفريق بايدن أفادت “الأخبار” بأن الأخير مدرك أن التوصّل إلى صيغة جديدة ومعدّلة للاتفاق النووي مع إيران لن يكون سهلاً. بحسب هذه المصادر، فإن الفريق المذكور، على رغم تمسّكه بالاتفاق النووي، يعتقد بضرورة أن “يُستكمل” بجملة من الترتيبات تتيح قيام ما يشبه المنظومة الإقليمية الضامنة “للاستقرار”. وبما أن التهديد الأول “للاستقرار “، في عرف بايدن وفريقه، هو تطوير إيران قدرات عسكرية وباليستية و”تضخّم” نفوذها في الإقليم، فإن المطروح هو استخدام مجموعة من الضغوط والعروض“السخية” لتستطيع إدارته، بعد استعادتها زعامتها لمعسكر غربي موحّد بشكل فعلي، أن تحمل هذا البلد على تغيير سياسته والقبول بتفاهمات تنسجم مع الرؤية الأميركية. أول العروض “السخية” هو تحويل الاتفاق النووي إلى معاهدة تحظى بموافقة الكونغرس، بما يمنع أيّ رئيس أميركي في المستقبل من الانسحاب منها كما فعل ترامب. العرض “السخي” الآخر هو انفتاح اقتصادي وتجاري أميركي وغربي على إيران يؤدي إلى نموّ شبكة مصالح مشتركة معها. ووفقاً للمصادر المذكورة، فإن فريق بايدن سيُشجّع أيضاً على حوار إيراني - خليجي بإشرافه، يفضي إلى إزالة أسباب التوتر بين الطرفين وإلى تطبيع العلاقات بينهما. وفي هذا السياق، تشير المصادر إلى معارضة بايدن وفريقه لاستمرار الحرب السعودية على اليمن ودعوتهما إلى وقفها، وهو أمر حرص نائب الرئيس السابق على التشديد عليه في مقاله المذكور سالفاً. وبما أن موافقة طهران على إملاءات تتعلّق بشأن سيادي مرتبط بسياستها الدفاعية كبرنامجها الصاروخي، أو بتحالفات نسجتها خلال عقود مع أطراف تجمعها بهم علاقات وثيقة وأسهمت في تعزيز موقعها في مقابل سياسات الحرب والحصار والخنق، هي فرضية مستبعدة، في المدى المنظور على الأقلّ، فإن اللجوء إلى قدر من الضغوط الاقتصادية والمالية يبقى خياراً مطروحاً بالنسبة إلى الفريق الديمقراطي. لكن المؤكد، نظراً إلى الأولويات الاستراتيجية العامة على المستوى الدولي، أن خيار الحرب على إيران لن يكون “على الطاولة”، بحسب التعبير المستخدم من المسؤولين الأميركيين. هذا هو الدافع الرئيس لتصريحات أنصار إسرائيل العقائديين، أمثال جون بولتون، المتمحورة حول حضّ الأخيرة على ضرب إيران “قبل فوات الأوان”.
لم تَتّضح حتى اللحظة مقاربة فريق بايدن للوضع في سوريا. فالعديد من الأعضاء الديمقراطيين في الكونغرس كانوا من أشدّ المتحمسّين لـ”قانون قيصر” الذي يفرض حصاراً خانقاً عليها، يهدف بالنسبة إلى أقطاب في إدارة ترامب، كجويل رايبرن، إلى تسريع انهيار الدولة وتفكيك المجتمع. يحذّر أطراف أميركيون، بينهم “كوينسي إنستيتيوت” الذي أصدر أخيراً تقريراً لهذه الغاية، من مغبّة اتّباع مثل هذه السياسة ومن تبعاتها على استقرار الإقليم. إذا كان ضمان حدّ أدنى من الاستقرار في الإقليم، أو حتى تخفيف مستوى التوتر، من بين أهداف فريق بايدن، فإن المضيّ في السياسة الحالية نفسها يتناقض مع تلك الأهداف. أما بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، فإن الأكيد هو أن بايدن، الذي كرّر في مقاله “التزامه الصارم بأمن اسرائيل”، لن يعاود ما يراه “تورّطاً” في عملية تفاوضية غير ذات جدوى وقد تفضي إلى استعداء إسرائيل والمنظومة الداعمة لها في الولايات المتحدة. هو سيتواطأ تماماً مع سياسة الاستيلاء التدريجي على ما بقي من أرض فلسطين.
منذ فترة ليست قصيرة، دعا مسؤولون سابقون وخبراء أميركيون، صناع القرار في بلادهم، إلى عدم الافراط في التركيز على صراعات الشرق الأوسط وتناقضاته، والالتفات إلى التحدّيات الاستراتيجية الجديدة، وفي مقدّمتها صعود قوى دولية منافسة كالصين وروسيا. وقد كان لهذه الدعوات تأثير على مقاربة بايدن لشؤون المنطقة، والهادفة أساساً إلى التخفّف من أعباء مثل هذا التركيز. غير أن عقبات ومصاعب كثيرة ستعترض طريق ترجمتها على أرض الواقع.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا