باتباعها سياسة الردّ بالمثل بعيداً من تصعيد إجراءاتها ضدّ الولايات المتحدة، تترك الصين الباب موارباً أمام «تصحيح» مسار العلاقات مع الأميركيين، الذين قرّروا، كما يتّضح يوماً تلوَ آخر، أن يخوضوا معركة الهجوم إلى آخرها. قرارٌ عبّر عنه السلوك العدائي لواشنطن إزاء بكين، والذي تصاعد في الأسابيع الماضية، تحت قيادة وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، وهو ما يندرج، بحسب مراقبين، في إطار استراتيجية «جمهورية» لكسب مزيد من الأصوات في الانتخابات الرئاسية المرتقبة في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، عبر تكثيف الهجمات على «فزاعة» اسمها الحزب الشيوعي الصيني. من هنا، يُنظر إلى أمر إغلاق القنصلية الأميركية في مدينة شينغدو، رداً على إغلاق الولايات المتحدة البعثة الدبلوماسية الصينية في هيوستن، بوصفه رداً متناسباً من حيث الحجم والتأثير، لا يعدو كونه مواصلة لأسلوب الردّ بالمثل على الإجراءات الأميركية. يبيّن ذلك جلياً بيان وزارة الخارجية الصينية، وخصوصاً لجهة إشارته إلى أن «الوضع الحالي للعلاقات الصينية - الأميركية هو ما لا ترغب الصين في رؤيته، والولايات المتحدة مسؤولة عن هذا كله»، ودعوته الأخيرة، مجدّداً، إلى التراجع عن قرارها و«خلق الظروف الضروريّة لعودة العلاقات الثنائية إلى طبيعتها».على أن ذلك يبدو مستبعداً قبل 100 يوم من الاستحقاق الرئاسي الأميركي، يدلّ قرار الصين استهداف بعثة شينغدو في جنوب غرب البلاد، دون سواها مِن بعثات أميركية أكثر أهمّية، على أن بكين حريصة على تجنيب العلاقات بين البلدين مزيداً من التأزُّم، أياً كانت نتيجة الانتخابات؛ وتغطي القنصلية الواقعة في إقليم سيتشوان، والتي فُتحت في عام 1985، كل المنطقة التي تقع فيها، وخصوصاً التيبت. وفي عام 2013، طلبت بكين من واشنطن تقديم تفسيرٍ في شأن برنامج للتجسُّس، عقب ورود معلومات أفادت بأن خريطة بالغة السرّية سرّبها المحلّل السابق لدى أجهزة الاستخبارات الأميركية، إدوارد سنودن، تُظهر وجود منشآت مراقبة لدى سفارات وقنصليات أميركية في مختلف أنحاء العالم، ومن بينها قنصلية شينغدو. وعن سياسة الردّ بالمثل، يلفت أستاذ العلوم السياسية المساعد في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، فيكتو شيه، إلى أن الصين «اختارت الردّ بشكلٍ متناسق بدلاً من الردّ بشكل مفرط يفاقم التوتّر في العلاقات الثنائية، ويستجلب ردّاً أميركياً في المقابل». وفيما أثارت الخطوة قلق المستثمرين ودفعت بالبورصات العالمية وأسعار النفط نزولاً على خلفيّة تصاعد التوتُّر بين العملاقين، اعتبر الدبلوماسي الصيني السابق، وانغ ييوي، أن الوضع لم يكن سيئاً بالدرجة المتوقّعة. وقال لـ«بلومبرغ»: «من غير الممكن القيام بخطوة متساوية تماماً، لكن اختيار شينغدو يُظهر أن الصين تريد تقليل الضرر بالعلاقات الثنائية»، ولا سيّما وأن «العمليّات التي تجرى مِن البعثة ليست أكثر عمليات البعثات الأميركية في الصين أهمّية، مقارنة بشنغهاي مثلاً».
دعت بكين إلى خلق الظروف الضروريّة لعودة العلاقات إلى طبيعتها


رغم ذلك، لم يعجب البيت الأبيض أسلوب الردّ بالمثل؛ إذ دعا الناطق باسم مجلس الأمن القومي، جون أوليوت، الصين إلى «وقف الأعمال الخبيثة» بدلاً من إغلاق بعثة دبلوماسية أميركيّة، والتي تضعها واشنطن في إطار «سرقة الملكيّة الفكرية ومعلومات الأميركيين الخاصة». وبرّر الأميركيون قرارهم إغلاق البعثة الصينية في هيوستن، بكون الأخيرة «وكرَ جواسيس صينياً»، والتعبير لبومبيو الذي يقود نيابة عن رئيسه دونالد ترامب، الهجوم الجديد ضدّ الصين. فالوزير الأميركي جدّد دعوته إلى «العالم الحرّ» بأن «ينتصر على الطغيان الجديد» المتمثّل بإيديولوجية الحزب الشيوعي، قائلاً إنه يجب على الولايات المتحدة وحلفائها استخدام «طرق أكثر ابتكاراً وحزماً» للضغط على «الشيوعي» لتغيير أساليبه، واصفاً تلك المهمّة بأنها «مهمّة عصرنا». وفي خطابٍ ألقاه من كاليفورنيا واتّسم بنبرة تذكّر بتلك التي طبعت لغة التخاطب بين الولايات المتّحدة والاتحاد السوفياتي السابق إبان الحرب الباردة بينهما، قال بومبيو إنّ الصين هي اليوم دولة «استبدادية أكثر فأكثر في الداخل، وأكثر عدوانية في عدائها للحرّية في كل مكان آخر»، متهماً الرئيس الصيني، شي جين بينغ، بأنّه «تابع مخلص لإيديولوجية شموليّة مفلسة». وحذّر في خطابه الذي ألقاه في مكتبة ريتشارد نيكسون الرئاسية في يوريا ليندا من أنّه «إذا لم يغيّر العالم الحرّ الصين الشيوعية، فإنّ الصين الشيوعية سوف تغيّرنا»، متهماً بكين باستغلال واشنطن والسخاء الغربي بطريقة أنانية، في الوقت الذي أجرت فيه إصلاحات وانضمّت إلى الاقتصاد العالمي خلال العقود الأربعة الماضية.