تتجاذب إسرائيل جملةُ ملفات مشبعة بالتحديات في مرحلة لايقين على أكثر من صعيد، وهي تتنازع في ما بينها على سلّم أولوياتها: محاولة مواجهة التهديد الأمني المتعاظم من حولها، وتحدّي «كورونا» الذي بات يضغط بقوة على الاقتصاد والأمن الاجتماعي، إضافة إلى خطة الضمّ التي باتت موضع شك، فيما التجاذب بين أقطاب المؤسسة السياسية على خلفية المصالح الشخصية الضيّقة، وتحديداً رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، يلقي بتبعات سلبية على مختلف الملفات بلا استثناءات.
التحدّي الأمني
في التحدّي الأمني، وهو الذي بات يُعرف بتهديد الجبهة الشمالية الأوسع الممتدّة من بيروت مروراً بدمشق فبغداد وصولاً إلى طهران، واضح أن تل أبيب تسعى، بمعية الولايات المتحدة، في تحقيق جملة إنجازات تحدّ وتُضعف مركبات محور أعدائها، وإن كانت حتى الآن في مرحلة المساعي التي لا تعرف إن كانت ستحقق النتائج المأمولة منها. وهذه الحقيقة تدركها وإن كان يتراءى لها إلى الآن أنها تحقق «مكاسب» على المدى القريب، فيما الهدف الذي تسعى إليه فعلياً بعيد جداً عن التحقق: صدّ تشكّل التهديدات وتناميها وأيضاً تعاظمها في ساحات أعدائها، التي لم تعد مركّزة في ساحة واحدة، ومنها أيضاً ما بات في حكم تعذّر مواجهته.
في مساعي الصد تتحرّك تل أبيب على حدّ السيف، وإن كانت تسعى جاهدة في الموازاة إلى تحقيق أقصى نتيجة ممكنة، مع كثير من الحذر أن لا تتسبب بمواجهات واسعة تدرك أن تحمّل تبعاتها متعذّر عليها، وإن كانت، في المقابل، قادرة على إلحاق الأذى الواسع في صفوف أعدائها. لكن القدر المتيقن بالأذى الذي تتوقعه لنفسها كافٍ كي يردعها ويدفعها إلى توخي أقصى درجات الحذر.
المعركة ضمن هذه الحدود تدور منذ سنوات، وتحقق إسرائيل بمعية الولايات المتحدة إنجازات في جولاتها التي تبدو أنها لا تنتهي، لكن دون أن تنهي التهديدات التي وجدت المعركة لصدها، بل يثبت يوماً بعد يوم تراكم التهديد وتعاظمه، ما يدفع تل أبيب إلى الاستعانة بالولايات المتحدة، عرّابتها، التي بات عليها هي حماية الكيان الإسرائيلي وحفظه والعمل بنفسها على منع التهديدات الإقليمية ضده، بدل أن يكون الكيان نفسه الوسيلة القتالية التي تحقق الإرادة الأميركية في المنطقة، من دون قدرة على مواجهتها.
المعركة مستمرة بلا توقف، لكن يتداخل فيها أكثر من عامل متناقض بين الكبح والدفع والتحفيز والردع وموازنة الثمن الحالي للأفعال الاعتدائية مقابل أثمان لاحقة أكبر وأوسع وأكثر إيلاماً. الحديث هنا يتعلق بمعركة ضد المقاومة في لبنان ومنع تعاظم قدراتها نوعياً، وتقصد إسرائيل بذلك منع حزب الله من امتلاك الصواريخ الدقيقة. إلى الآن، تصمد قواعد الاشتباك وتمتنع إسرائيل قسراً عن كسرها، إذ إن من شأن محاولة الكسر التسبب بردّ وردّ على الرد، وسلسلة ردود متبادلة... ومن ثم التدحرج إلى مواجهة عسكرية من الصعب تقدير المدى الذي يمكن أن تبلغه.
كذلك الأمر في ما يتعلق بالوجود الإيراني في سوريا، وهو ما تطلق عليه إسرائيل «التمركز الإيراني»، الذي صدرت إزاءه وعود كثيرة منذ سنوات ولا تزال، بل وكانت بالأمس القريب أعلنت أنه كاد ينتهي وبات الإيرانيون في مرحلة الرحيل النهائي عن سوريا. ولا يبدو أن الضربات الإسرائيلية، المدروسة جيّداً والحذرة جيّداً، في الساحة السورية من شأنها إنهاء «التمركز»، بل في المقابل بدأ يترسخ أكثر فأكثر، وخاصة أنه مبني على إرادة سورية - إيرانية مشتركة، كان آخر تعبير عنها اتفاقات أمنية وعسكرية ثنائية أثارت حفيظة إسرائيل. في هذه الساحة تحديداً، التحدّي كبير جداً وتأثيراته قاسية على تل أبيب، وبشكل أكثر تأثيراً على المدَيين المتوسط والبعيد، وإن بإمكانها حالياً التعايش النسبي مع مرحلة «التشكّل والتمركز».
تخشى حكومة نتنياهو مزيداً من التداعيات الاقتصادية التي تزيد من حدة التأزّم لدى الإسرائيليين


واحد من جملة قيود تل أبيب في هذه الساحة هو أنها شبه مكبلة عن المبادرة وفقاً لاستراتيجيتها المعتمدة في ضرب أعدائها والتأثير في قراراتهم وتوجهاتهم، ذلك أنها مضطرة إلى الابتعاد وعدم المسّ بـ«مركز الثقل» الفعلي في سوريا، الذي يمكنها الرهان عليه كي يتسبب بالتشويش على «التمركز الإيراني». هذه ربما من الأمور التي يغفل البعض عن تظهيرها، وإن كثرت الأحاديث عن اعتداءات إسرائيلية هنا وهناك.
مركز الثقل الذي يمكن لتل أبيب أن «تحشر في الزاوية» عبر استهدافه أو التهديد الجدي باستهدافه، هو مركبات ومقدرات النظام السوري نفسه، إلا أن مركز الثقل هذا خارج القدرة الإسرائيلية الفعلية على الاستهداف المفضي إلى التأثير على إرادة دمشق أو إرادة طهران، مجتمعتين أو متفرقتين، نظراً إلى معادلات الساحة السورية وموازين القوى فيها وتشعبات وتضارب المصالح فيها لأكثر من لاعب، ومن بينها ما لا يمكن لتل أبيب أن تتجاوزه.
أي مسّ جدي بنظام الرئيس السوري بشار الأسد، سوف يؤدي في نهاية المطاف إلى مواجهة عسكرية واسعة، تحرص إسرائيل حتى الآن على تجنبها لأنها تتخوف من أثمانها وتخشى تداعياتها الإقليمية، وربما تؤدي إلى كف يد إسرائيل مطلقاً عن المس بسوريا. أمّا الاعتداءات التي تُعد «طَرقاً على الأطراف» البعيدة عن مراكز ثقل المحور ومركباته، فلا تجلب فائدة كبيرة إلا بما يتعلق بالعامل النفسي، مع قليل من الإنجاز المادي في السياق.

أزمة «كورونا»
تضغط جائحة «كورونا» على إسرائيل في أكثر من اتجاه ومستوى، ولا تقتصر تداعياتها السلبية على الوضع الصحي للإسرائيليين. الموجة الثانية من الفيروس تضرب بقوة، ووصلت إلى حد احتلال إسرائيل المرتبة الثالثة، بعد الولايات المتحدة وتشيلي، بعدد الإصابات نسبة إلى عدد السكان. وزير الصحة الإسرائيلي يولي أدلشتاين حذّر من التداعيات المرتقبة للفيروس بعد تجدد انتشاره وانفلاشه، لافتاً إلى أن معجزة فقط هي التي يمكن لها أن تنجي إسرائيل من الكارثة. والحديث يتعلّق بأضعاف مضاعفة في عدد الإصابات عما كان عليه في الموجة الأولى للفيروس.
واضح لدى متابعي الشأن الإسرائيلي التخبّط في معالجة تداعيات «كورونا» وانتشاره السريع. ففيما تركّز الأجهزة المختصة على ضرورات الإغلاق الكامل، تواجه حكومة نتنياهو الإغلاق عبر التسويف والإغلاقات الجزئية الموضعية، إذ تخشى مزيداً من التداعيات الاقتصادية التي تزيد من حدة التأزم لدى الإسرائيليين وتزيد من نسبة البطالة التي زادت نتيحة الموجة الأولى من الفيروس عن نسبة 21 في المئة وهي مقدّرة أن تزيد. وبحسب البيانات، فإن عدد العاطلين عن العمل يقارب الـ 800 ألف، بينهم 575 ألفاً أُخرجوا في إجازة غير مدفوعة الأجر، علماً بأن قطاعات كاملة باتت بحكم الإفلاس والتوقف النهائي، من دون أفق فعلي للخروج من الأزمة.
في الوقت عينه، باتت جائحة «كورونا» وتداعياتها مركباً رئيساً في التجاذبات السياسية بين النخبة الحاكمة، بل امتدت لتكون مادة تجاذب بين المؤسستين السياسية والعسكرية، فيما الأفق مسدود عن المعالجة. المعجزة التي تحدث عنها وزير الصحة لا يبدو أنها مقبلة، وهو عملياً يقر ضمناً بأن المؤسسات الصحية باتت عاجزة عن مواجهة الفيروس، وإن كان يصر على مواصلة توليه مع أجهزة وزارية أخرى التصدي لتبعات الفيروس. مقابل وزارة الصحة، التي يسيطر عليها حزب «الليكود»، يضغط وزير الأمن بني غانتس، أي حزب «أزرق أبيض»، كي تتولى وزارته مع الجيش الإسرائيلي مواجهة «كورونا»، الأمر الذي يرفضه نتنياهو ويجهد كي يحول دونه، فمعالجة «كورونا» من قبل خصومه السياسيين الذين يسيطرون على وزارة الأمن تبعد الأضواء عنه مع التركيز على نجاحاتهم، وخاصة إن استطاع الجيش الحد من انتشار الفيروس حيث عديده ومؤسساته يسمحون له بذلك. ويخشى نتنياهو نتيجة كهذه في مرحلة حساسة جداً من ناحية سياسية، قد تشهد انفراط عقد الحكومة والتوجه إلى انتخابات مبكرة رابعة، ما يعني إعطاء رصيد بالمجان للخصوم، في انتخابات قد تكون مرجّحة، ولكن السؤال متى وتحت أي شعار؟
ويلقي الفيروس بظلال ثقيلة على الجيش الإسرائيلي، دفعه إلى إلغاء تدريباته ومناوراته المقرّرة ضمن برنامج تأهيل مكثف يهدف إلى تحقيق جهوزية في مواجهة إمكانات تصعيد على أكثر من جبهة. وإذا ما استمرت الإصابات بالزيادة وبالوتيرة التي هي عليه الآن، فلا يبعد أن يؤثّر الفيروس أيضاً على نشاطات الجيش وإجراءاته. ويكفي للدلالة الإشارة إلى مئات الإصابات في الوحدات العسكرية، وما يزيد إلى الآن عن 11.500 عسكري باتوا في الحجر، ما يُخرج من النشاط الجاري والاستعداد للسيناريوات المختلفة عديداً يوازي فرقة عسكرية كاملة في الخدمة الدائمة، ومن بينها قطاعات من وحدات استخبارية هي عماد قدرة إسرائيل ومنعتها الأمنية.
يرد في صحيفة «هآرتس» وصفٌ لتداعيات «كورونا» على خطة جهوزية الجيش، في تقرير تحت عنوان «كان لدى كوخافي خطط فجاء الواقع وصفعه على وجهه». حسب الصحيفة، أصيب كوخافي بضرر في أنه لم يعد قادراً على تحقيق رؤيته الاستراتيجية (خطة) «تنوفا»، التي كان يأمل من خلالها تحسين قدرات الجيش لضمان الحسم في الحروب المقبلة. اتضح له أن ما كان يطالب به لن يتحقق نتيجة الخلافات بين رئيس الحكومة ووزير الأمن، الأمر الذي يتسبب بلايقين سياسياً مع ضغط إضافي لـ«كورونا» الذي أدى إلى تدهور خطير في الاقتصاد وأعاق وفاقم بشدة عجز الموازنة.

شكوك حول الضمّ
خسرت خطة الضم واحداً من أهم مقوّماتها، وهو الزخم الأميركي الذي ميّز موقف الإدارة الأميركية عندما حدَّد نتنياهو موعد تنفيذها كاملة في الأوّل من الشهر الجاري. العامل الأميركي، وإن لم يكن وحيداً في منع خروج خطة الضم إلى حيز التنفيذ، إلا أنه أهم العوامل، ويوصف إسرائيلياً بأنه كاف في ذاته لمنع الخطة. وفقاً لمسؤول أمني إسرائيلي رفيع المستوى، في حديث إلى نشرة «المونيتور» بنسختها العبرية: «باتت فرصة تنفيذ خطة الضم، حتى لأجزاء من الضفة، في مستوى أرجحية منخفضة جداً إلى معدومة»، لافتاً إلى أن «هناك كثيراً من الشروط والظروف التي يجب أن تتحقق قبل ذلك».
وتضغط على خطة الضم مخاوف أمنية يُقدّر أن تُفعّل فور صدور قرار الضم، وهو ما أكد عليه في «الغرف المغلقة مع نتنياهو»، وفقاً لمصادر إسرائيلية مختلفة، كل من رئيس الأركان أفيف كوخافي، والمدير للأمن العام الداخلي (الشاباك) نداف أرغمان: «سيؤدي الضم إلى انتفاضة فلسطينية ثالثة ضد إسرائيل، مع احتمال بمستوى مرتفع، أن يتسبب كذلك بتصعيد أمني مع جبهة غزة». إلا أن ذلك لا يعني انتفاء الخطة وترحيلها إلى «أجل غير مسمى». نعم بإمكان نتنياهو تجاوز تقديرات الجيش، والتي تبدو مبنية على الخشية من انشغاله في ملفات تحرف تركيزه عن مواجهة الجبهة الشمالية بمركباتها المختلفة، وهي التي تشهد سخونة واحتمالات لسيناريوات متطرفة، إلا أنه غير قادر على تجاوز ما يسمّيه الإسرائيليون التنسيق المسبق مع الإدارة الأميركية في قرار الضم، ومعناه تلقي موافقة مسبقة من دونالد ترامب، المشغول بجملة ملفات داخلية تتعلق بسباقه الرئاسي وتراجع حظوظه في التجديد لولاية ثانية.
لكن هل قرار ترامب نهائي؟ يمكن التأكيد على ذلك ضمن المدى المنظور والقريب جداً، لكن من الآن وحتى موعد الانتخابات في تشرين الثاني المقبل، مدة زمنية طويلة جداً، وقد تشهد تغييراً في الموقف إن وجد ترامب أن ذلك يخدمه انتخابياً، وخاصة مع موقف مطالب وملح من قبل ناخبيه الإنجيليين الذين يعوّل عليهم كثيراً في صناديق الاقتراع.