بالتأكيد، كان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يعرف مسبقاً بقرار مجلس الشورى. فكل الأعضاء يدورون في فلك حزب «العدالة والتنمية»، لذا جاء القرار بالإجماع. وبناءً على ذلك، أصدر إردوغان فوراً مرسوم تحويل متحف آيا صوفيا إلى جامع. وبعد ساعات قليلة، كان يوجّه «خطبة الفتح الثانية للقسطنطينية» للأتراك والعالمين المسيحي والمسلم. خطبة ما كانت لتُستولد كما جاءت عليه لولا أيام وأسابيع من الغوص في التاريخ جهد خلالها كاتبوها لإقناع الجمهور بـ«الشرعية» التاريخية والفقهية لقرار اعتبار آيا صوفيا مسجداً.بخطوة إلغاء وضع آيا صوفيا متحفاً وتحويله إلى جامع، يتحدى إردوغان الجميع.
على الصعيد الداخلي:
1- هي خطوة ضمن مسار بدأ مع إردوغان من أجل تعزيز الطابع الديني للدولة والمجتمع، والذي كان التعليم أحد مجالاته الأساسية. وهو مسار متدرج لن يتأخر كثيراً في الإعلان عن بلوغه خط النهاية في وقت ليس ببعيد. وقد طفق الكتّاب المتدينون يقومون بحملة واسعة دفاعاً عن الخطوة، معتبرين القرار كسراً للأغلال التي كبّلوا بها تركيا منذ مئة عام، فيما أوعزت رئاسة الشؤون الدينية إلى كل الجوامع في تركيا لإقامة صلاة الشكر على استعادة جامع آيا صوفيا. كذلك تجرى الاستعدادات لتغيير معالم آيا صوفيا من الداخل وطمس الأيقونات والرسوم وغير ذلك من رموز دينية مسيحية (عبر تكنولوجيا ضوئية) ليكون المكان ذا مظهر ديني إسلامي صرف.
2- هي ضربة أخرى لمسار العلمنة الذي أرساه مصطفى كمال أتاتورك. وكل خطوة تضيف إلى خطة التديين هي خطوة تنقص تلقائياً من العلمانية. وما يحاوله إردوغان خصوصاً هو الانتقاص من هالة مصطفى كمال أتاتورك شخصياً و«شيطنته» في مختلف المجالات باعتباره رمزاً للعلمنة في تركيا كما في العالم الإسلامي. وقد انتقد عدد كبير من المؤرخين والحقوقيين قرار مجلس الشورى. ورأى المؤرخ حقي أويار أن القرار هو ضربة لـ«القيم المؤسّسة للجمهورية»، ولا يحل مشكلة بل يفاقم مما هو قائم ولا يخدم سوى التلاعب بمصير البلاد.
هي خطوة ضمن مسار من أجل تعزيز الطابع الديني للدولة والمجتمع


3- لا تبعد خطوة إعادة آيا صوفيا جامعاً عن حسابات داخلية يتقن إردوغان حبك خيوطها. فإردوغان، وقد أصبح ذلك معروفاً، يعزف على الأوتار القومية والدينية والمذهبية عشية كل استحقاق انتخابي. ومع أن الانتخابات الرئاسية المقبلة ستكون بعد 3 أعوام، إلا أن احتمال إجرائها في وقت أبكر ليس مستبعداً. وكما أضاف إردوغان إلى جعبته «إنجاز ليبيا» (حتى الآن على الأقل) معززاً قاعدته القومية، ها هو يضيف «إنجاز آيا صوفيا» معززاً قاعدته الدينية وممسكاً بورقتين مهمتين.
4- تقع الخطوة في إطار حرف الأنظار عن المشكلات الاقتصادية التي تواجهها تركيا، ولا سيما بعد أزمة «كورونا». وتقول الكاتبة في صحيفة «جمهورييت» ألتشين بويراز، إن إردوغان تجاهل الأوضاع الصعبة وتراجع النمو وكبت الحريات وازدياد البطالة والجريمة وهرب إلى خطوة مثيرة لإلهاء الناس عن مشكلات البلاد الحقيقية.

بالطبع، هاتان الورقتان وحدهما غير كافيتين لفوز إردوغان بالرئاسة من جديد، فهناك الورقة الاقتصادية الأهم، لكنهما تشكلان إضافة قد تكون مؤثرة على نتائج الانتخابات الرئاسية.
أمّا على الصعيد الخارجي:
1- منذ تحويل قضية آيا صوفيا إلى جامع، إلى مجلس الشورى، توالت ردود الفعل الخارجية، المسيحية تحديداً. وجاءت المناشدات مجمعة على ضرورة عدم اتخاذ مثل هذه الخطوة التي تزيد من تأجيج الحساسيات الدينية بين تركيا والغرب وبين المسلمين والمسيحيين. وجاءت المناشدات والتحذيرات من الأرثوذكس كما من الكاثوليك. مع ذلك، لم يعر إردوغان أذناً صاغية لكل النداءات. وقد انتقد زعيم حزب «الديموقراطية والتقدم» الخطوة قائلاً إن آيا صوفيا ميراث ثقافي مشترك لكل العالم، معتبراً أن تركيا تمر اليوم في «نفق مظلم».
خرج إردوغان في لحظة انتشائه باللحظة الليبية، الموجهة ليس فقط إلى مصر والخليج بل إلى اليونان وقبرص اليونانية وفرنسا وروسيا، ليضع نفسه لاعباً إقليمياً ودولياً مؤثراً. لكنه، بخطوة تمسّ رمزاً دينياً وحضارياً عالمياً مثل آيا صوفيا، تطلّع إردوغان ليضع نفسه في موقع الزعيم العالمي.
2- ليست مصادفة أن يحدد إردوغان يوم الجمعة في 24 تموز/ يوليو موعداً لافتتاح الصلاة في «الجامع الجديد». فهو كان سيحدد هذا التاريخ لهذا الموعد سواء كان نهار جمعة أو أحد. ففي هذا التاريخ في عام 1923 وُقّعت معاهدة لوزان بين تركيا والقوى الكبرى، والتي رسمت الحدود الجغرافية والحضارية والاجتماعية لتركيا الجديدة. وقد أراد إردوغان من إعادة آيا صوفيا جامعاً رسالة، إلى القوى الكبرى، بأنّ العد العكسي لإلغاء المعاهدة، التي اعتبرها إردوغان في صيف 2016 هزيمة، بدأ.