«الأسف البالغ للجروح التي تسبّبت بها بلجيكا خلال فترة الاستعمار للكونغو». هذه كلمات الملك فيليب. خطوة غير مسبوقة قام بها ملك بلجيكا اليوم، في مناسبة الذكرى الستّين لاستقلال جمهورية الكونغو الديمقراطية من الاستعمار البلجيكي. فوجّه رسالة إلى رئيس الكونغو، فليكس تشيسكيدي، يُعبّر فيها عن «بالغ أسفي لجروح الماضي هذه التي يُستعاد ألمها اليوم عبر التمييز الذي لا يزال حاضراً في مجتمعاتنا»، مشيداً بـ«الشراكة المتميزة» بين البلدين الموجودة حالياً. ولكن قبل فترة التعاون بين البلدين، كان هناك حلقات مؤلمة في تاريخهما، بما في ذلك حكم الملك ليوبولد الثاني (لم يُسمّه الملك فيليب بشكل مباشر) وفي القرن العشرين. ووعد الملك في رسالته بأنّه «سأستمر في مكافحة جميع أشكال العنصرية، وأُشجّع التفكير الذي بدأه برلماننا، حتى تهدأ ذاكرتنا بكل تأكيد». اللافت في الموضوع، أنّها المرة الأولى في تاريخ بلجيكا التي يُعبّر فيها ملكٌ، بشكل رسمي، عن أسفه لما حدث خلال حكم بلاده الاستعماري في الكونغو. ولأنّ بلجيكا هي ملكية دستورية، فإنّ بيان الملك فيليب وافقت عليه مسبقاً حكومة رئيسة الحكومة البلجيكية صوفي ويلميس، التي قالت اليوم، إنّ «ساعة الحقيقة لبلجيكا قد دقّت»، مضيفةّ أنّ «أي عمل لإحياء الذاكرة والحقيقة يبدأ أولاً بالاعتراف بمعاناة الآخر».
وتُحيي اليوم جمهورية الكونغو الديمقراطية ذكرى بطلها الوطني، باتريس لومومبا، الذي تحوّل إلى أيقونة لدى الناشطين المناهضين للاستعمار، الذين يطالبون القوى الاستعمارية السابقة بتحمّل المسؤولية عن ماضيها. ودخل باتريس امري لومومبا التاريخ في 30 حزيران 1960 بفضل كلمته المناهضة لعنصرية المستعمرين، التي ألقاها بحضور ملك بلجيكا بودوان، خلال الاحتفال الرسمي الذي أعلن ولادة الكونغو. فقال: «لقد عرفنا السخرية والإهانات، وتحمّلنا اللطمات صباحاً وظهراً ومساءً، لأننا كنا زنوجاً». وجاءت كلمة لومومبا في سياق الرد على الملك البلجيكي الذي أشاد بإرث سلفه ليوبولد الثاني ووصفه برسول الحضارة لا بـ«الغازي».

قتل أكثر من 10 ملايين كونغولي
في القرن التاسع عشر، بدأت القوى الأوروبية بالاستيلاء على أجزاء واسعة من أفريقيا من أجل استغلالها. واستولى ملك بلجيكا آنذاك، ليوبولد الثاني، على مناطق واسعة من حوض نهر الكونغو، والتي أصبحت تعرف باسم دولة الكونغو الحرة. خلال هذه المدة، التي امتدت من 1885 إلى 1908، يُعتقد أنّ أكثر من 10 ملايين أفريقي قتلوا من جرّاء الأوبئة وانتهاكات الحكم الاستعماري، وخلال العمل في مزارع الملك. ولجأ الملك الراحل عبر شركات امتياز إلى نظام السخرة لاستخراج الكاوتشوك في الكونغو. ووُثّقت تجاوزات وصلت إلى قطع أيدي العمال الذين لم يكن إنتاجهم كافياً. ووفقاً لمعظم المؤرخين، لم تتوقّف أعمال العنف بعد 1908، أي بعد تنازل ليوبولد الثاني عن العرش، وظلّ نظام الفصل بين البيض والسود على، غرار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، مطبّقاً لعقود. إلا أنّ المقاومة الواسعة أدّت في نهاية المطاف إلى حصول جمهورية الكونغو على استقلالها عام 1960.

إزالة نصب «ليوبولد الثاني»
يأتي هذا الاعتذار بالتزامن مع التظاهرات المناهضة للعنصرية، والتي تجتاح أوروبا والولايات المتحدة الأميركية على خلفية مقتل المواطن الأميركي ذي الأصول الأفريقية جورج فلويد، في أيار الماضي، على يد ضابط شرطة. وفي بلجيكا تحديداً، أثارت وفاة فلويد الجدل مجدداً بشأن العنف في الفترة الاستعمارية في الكونغو والدور المثير للجدل للملك الراحل ليوبولد الثاني (1865ـــ 1909) الذي يتهمه بعض الناشطين المناهضين للاستعمار بأنه قتل ملايين الأشخاص في الكونغو. وتعرضت تماثيل للملك الراحل للتخريب في بروكسل وأنفير، وأُلقي عليها طلاء أحمر يرمز إلى دماء الضحايا الكونغوليين. كما قررت جامعات وبلديات إزالة تماثيل وتماثيل نصفية.
وفي مذكرة جمعت أكثر من 80 ألف توقيع طالب بعنوان «فلنُصحّح التاريخ»، جرت المطالبة بإزالة كلّ التماثيل التي تُمجّد الملك الراحل في بروكسل، خصوصاً تلك التي نُصبت قبالة القصر الملكي. ويتّهم نصّ المذكرة ليوبولد الثاني بكونه «سفّاحاً»، وبـ«قتل أكثر من 10 ملايين كونغولي». وتزامناً، تستعد مدينة غنت البلجيكية لإزالة نصب تذكاري لليوبولد الثاني اليوم، إحياءً لذكرى استقلال المستعمَرة السابقة.