أُعيدت جدولة برنامج العمل الروسي على توقيت الأزمة الصحّية التي خلّفت، جنباً إلى جنب حرب أسعار النفط، تداعيات كبيرة على الاقتصاد المحلّي. ففي غضون أسبوع واحد، نُظِّم استعراض ضخم في الساحة الحمراء لمناسبة الذكرى الـ75 للنصر في الحرب الوطنية العظمى، وأُعلن «الانتصار» على الوباء، لإفساح المجال أمام انطلاق استفتاء شعبي لاعتماد تعديلات في الدستور، يُفترض أن تشكِّل إطاراً جديداً لتنظيم العلاقات بين السلطات الثلاث من جهة، وبينها وبين الشعب من جهة أخرى، على أن ترسِّخ سلطة الرئيس فلاديمير بوتين لسنوات طويلة مقبلة.لم تكن التعديلات المُقترحة على الدستور الروسي تحتاج استفتاء شعبياً لتمريرها واعتمادها؛ الخطوة التي مِن شأنها منحَ تفويض شعبي للرئيس فلاديمير بوتين ليستمرّ في الحكم بعد انتهاء ولايته الرابعة (والأخيرة) في 2024، تُعزِّز الاعتقاد بكون الاستفتاء استفتاء على شخص الرئيس، لا على الإصلاحات بصورتها الأوسع. وهي تأتي وسط تراجعٍ حادّ في مؤشرات الاقتصاد خلّفته حرب أسعار النفط الروسية - السعودية وتهاوي أسعار الخام، معطوفةً على تداعيات الإغلاق لمواجهة وباء «كورونا»، والذي فرض، بدوره، إرجاء حدثين مهمَّين على جدول الأعمال الروسي: الاستفتاء الذي كان يُفترض تنظيمه في 22 نيسان/ أبريل الماضي، والاحتفال بالذكرى الـ75 للنصر في الحرب الوطنية العظمى في 9 أيار/ مايو.
في المؤتمر الصحافي الموسّع الذي يعقده في نهاية كل عام، سُئل بوتين في نهاية العام الماضي عن الإصلاح الدستوري لجهة منع تولِّي أكثر من «ولايتين متتاليتين»، ليوضح: «لدينا ولايتان متتاليتان، خادمكم المخلص أنجز ولايتَيه، ثمّ يغادر المنصب». كان ذلك قبل أشهر ستة، وعلى مسافة أربع سنوات من انتهاء ولايته الرئاسية الرابعة، حين اقترح تعديلات هيكليّة في النظام السياسي القائم، هي الأولى منذ ما يزيد على عقدَين. ساد اعتقاد، في حينه، بأن التعديلات، بصورتها المُقترحة، تعني، عمليّاً، الإعداد لحقبة «ما بعد بوتين». ومِن دون أن يمسّ بالنظام الرئاسي القائم، سيعزِّر «الدستور الجديد» صلاحيات البرلمان والحكومة ومجلس الدولة، عبر إعادة توزيع السلطات وتنظيم العلاقات في ما بينها.
منتصف كانون الثاني/ يناير الماضي، وفي رسالته إلى الجمعية الفدرالية الروسية، انتهز بوتين المناسبة للدعوة إلى استفتاء عام حول مجموعة من التعديلات الدستورية. عمليّة التجديد الشاملة التي أطلقها مِن قاعة «مانيز» للمعارض، حينها، أثارت تساؤلات حول شكل النظام السياسي في روسيا، ومستقبل الرئيس الحالي فيه بعد انتهاء ولايته الرئاسية الأخيرة. تساؤلات سرعان ما بدَّدها اقتراح النائبة الروسية، فالينتينا تيريشكوفا، تعديل الدستور بطريقة تتيح للرئيس الترشُّح لولاية جديدة بعد «تصفير» عدّاد ولاياته، والذي أيَّده بوتين بشرط تصويت المواطنين بـ«نعم» في الاستفتاء. منذ الـ25 من الشهر الجاري، ولغاية يوم غد الأربعاء، تواصل التصويت تجنباً لتدفّق أعداد كبيرة مِن الناخبين بسبب وباء «كورونا»، في استفتاء يُفترض أن يسمح للرئيس الروسي بالترشُّح لولايتين خامسة وسادسة في عامَي 2024 و2030 (أي البقاء في السلطة حتى عام 2036)، بعد تصفير عدَّاد ولاياته. ويجرى الاستفتاء على مجموعة واسعة من التعديلات الدستورية، التي وافق عليها البرلمان والمحكمة الدستورية بالفعل، والتي يقول الكرملين إنها ضروريّة لتعزيز دور البرلمان وتحسين السياسة الاجتماعية والمحافظة على الاستقرار.
يأتي الاستفتاء في وقت شهدت فيه شعبية بوتين تراجعاً على خلفية أزمة «كورونا»


المادة الـ81 من الدستور الروسي المُقترح تعديلها، والخاصة بعدد الولايات الرئاسية، تتضمَّن فقرة انتقالية تعفي الرئيس الذي يشغل منصبه وقت دخول التعديلات الدستورية حيّز التنفيذ مِن احتساب ولاياته السابقة ضمن الحدّ الأقصى للولايات الرئاسية، وتسمح له بالترشُّح لولايتين إضافيتين، وإذ يبدو أن بوتين لم «ينجز مهمَّته» كما سبق وذكر، فهو لم يستبعد البقاء في منصبه إلى ما بعد عام 2024. لكنه أبدى حرصه على إغلاق باب التكهنات في شأن الخليفة المحتمل لمنع تشتّت الجهاز الحكومي: «ما لم يحدث هذا، فعندئذٍ وعلى مدى نحو عامين - وأنا أعلم ذلك عن تجربة - سيتحوّل إيقاع العمل الطبيعي في العديد من الجهات الحكومية إلى بحث عن خلفاء محتملين». لذا: «لا بدّ لنا أن نعمل، لا أن نبحث عن خلفاء». وإلى «تصفير» الولايات الأربع، تضمّ التعديلات حزمة إصلاحات سياسية من شأنها تعزيز دور البرلمان في تأليف الحكومة عبر منحه صلاحية اختيار رئيسها وفريقها الوزاري، باستثناء بعض الحقائب السيادية، مثل الدفاع والداخلية والخارجية وغيرها. في الوقت ذاته، فإنها تحافظ على صلاحيات الرئيس في قيادة الجيش والأمن وجميع هيئات أنظمة إنفاذ القانون، وتحديد مهام وأولويات الحكومة، إضافةً إلى حقّه في إقالتها، وإقالة قضاة المحكمتَين العليا والدستورية. كما تنصّ على توسيع صلاحيات حكام الأقاليم وتثبيت صفة ودور مجلس الدولة الذي يضمّهم على المستوى الدستوري، وتشديد شروط الإقامة للمرشّحين للرئاسة. وسيدرج ضمن «الدستور الجديد» بعض المبادئ المحافظة، مثل ذكر «الإيمان بالله»، وتحديد الزواج على أنه بين رجل وامرأة، وربط المعاشات التقاعدية بتضخّم الأسعار.
وفي وقت يبدو فيه تمرير التعديل أمراً يقيناً (قال مركز «فتسيوم» لاستطلاعات الرأي العام التابع للدولة، يوم أمس، إن استطلاعات أجراها لآراء الناخبين الخارجين من مراكز التصويت، أظهرت أن 76% من الروس صوّتوا لدعم الإصلاحات)، إذ إنّ نسخة الدستور المعدَّلة باتت أصلاً موجودة في المكتبات، فإنّه يأتي في وقت شهدت فيه شعبية بوتين تراجعاً على خلفية تعديلات في نظام التقاعد، وأزمة «كورونا». وبين أيار/ مايو 2018 وأيار/ مايو 2020، انخفضت نسبة تأييد الرئيس، بحسب مركز «ليفادا» المستقلّ للإحصاءات، من 79% إلى 59%. ويعتقد بعض الخبراء بأن المضي قدماً في الاستفتاء، جاء على خلفية الانخفاض الملحوظ في نسبة تأييد بوتين في شهرَي نيسان/ أبريل، وأيار/ مايو، ذروة الأزمة الصحية.
منذ عام 2017، اعتَمدت تقييمات التأييد على أداء السلطات بشكل أقلّ على العظمة الرمزية والانتصار على الأعداء في الداخل والخارج. وتخطت حالة الاقتصاد والرفاهية الاجتماعية، حالة الشعور بالفخر الوطني، كما يبدو أن تأثير ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، والذي أدّى في البداية إلى ارتفاع نسبة تأييد بوتين إلى أكثر من 80%، تلاشى وفقد القدرة على التعبئة. يقول سيرغي رادشنكو، مؤرخ الحرب الباردة ومدير كلية القانون والسياسة في جامعة كارديف، «على عكس القيصر، الذي ادّعى تفويض الله لحكم كل روسيا، لا يزال بوتين ينظر إلى نفسه على أنه ديموقراطي، لذا فهو يريد أن تكون لديه آلية قانونية لإضفاء الشرعية على استمراره في الحكم».
تغيّر الكثير منذ بداية العام الجاري، إذ كان مِن المفترض أن يشكِّل الحدثان المتمثلان في الاستفتاء في نيسان/ أبريل والاحتفال بيوم النصر في أيار/ مايو، قاعدةً نحو انطلاقة جديدة. لكن الوباء غيّر جدول الأعمال، واقترن التغيير في جدول الأعمال واختفاء أدوات التعبئة السياسية، باستثناء خطاب بوتين في عيد النصر، بانخفاض حادّ في مؤشرات الاقتصاد وانخفاض عائدات الموازنة نتيجة انخفاض أسعار النفط، إضافة إلى إغلاق الشركات (يحظى بوتين بدعم الطبقة التجارية الخاصة التي تشكِّل 20 إلى 25% من سوق العمل) بسبب إجراءات العزل.