أثارت عمليات إسقاط تماثيل لرموز تاريخية في عدد من البلدان الأوروبية، كان لها دور مركزي في زمن الاستعمار والعبودية، سجالاً فكرياً وإعلامياً حاداً في فرنسا. مطالبة الحركة المناهضة للعنصرية في هذا البلد بإزالة تماثيل كولبير، الذي صاغ «القانون الأسود» (أي المنظومة القانونية الخاصة بالعبودية)، وجوزيفين دو بوهارني (زوجة نابوليون التي تتحمّل مسؤولية إعادة تشريع العبودية في جزيرة المارتينيك)، وغيرهما من رموز العبودية، فجّرت هستيريا المثقفين الإعلاميين والمعلّقين الرجعيين على شاشات التلفزة.الفيلسوف ميشيل أونفراي، سأل في مقابلة مع قناة «سي نيوز» في 11 حزيران/ يونيو إن كان من المقبول «تدمير كهوف لاسكو لأن الرجال فيها كانوا على الأغلب يصفعون النساء». تعكس هذه المداخلة لامبالاة المثقفين الإعلاميين العميقة حيال المسألة العرقية وديمومة حالة الإنكار في فرنسا تجاه ماضيها العنصري. وفي القناة نفسها، أعلن إيريك زيمور، المثال النموذجي للمساجل الرجعي الذي صنع من قبل وسائل الإعلام، أن إسقاط التماثيل يعبّر عن «رغبة بتدمير تاريخ شعب وحضارته، لاستئصاله والحلول في مكانه». سبق للمثقف «اليهودي العضوي» آلان فيلكنكراوت، أن شرح سنة قبل هذه الضوضاء الإعلامية أن «السود لا يعرفون ما إذا كانوا أحفاد عبيد أم أحفاد تجار عبيد. الأحفاد، بمعزل عن هويتهم، لا يحق لهم الاستحواذ على عذابات أجدادهم».
الحقيقة هي أن وظيفة أطروحة «الاستبدال الكبير» للعرق الأبيض من قبل أبناء المستعمرات السابقة، والخطاب الذي يفصل التاريخ الاستعماري عن واقع التراتبية العرقية والإثنية في المجتمع الفرنسي الحالي، من منظور المثقفين الإعلاميين، هي تصنيف ضحايا التمييز العنصري باعتبارهم «تهديداً»، لتبرير العنف الذي يمارس بحقهم. ردور فعل هؤلاء المثقفين حيال مطالبة الحركة المناهضة للعنصرية بالعدالة، التي اكتسبت وقعاً أكبر بعد جريمة قتل جورج فلويد، لا تنم فقط عن تعامٍ متعمّد من قبلهم، بل أساساً عن خيارات أيديولوجية وسياسية واضحة.
أبناء المستعمرين والمستعبدين يعتبرون أن إعادة النظر بهذا التاريخ قضية نضالية مركزية

تتجاهل هذه الخيارات الدور الوازن للموروث الاستعماري في إعادة صياغة الاجتماع الفرنسي وكذلك الممارسات الاجتماعية ــــ الثقافية الهادفة إلى إنتاج «صدام حضاري» بين النموذج الجمهوري الفرنسي وفئات شعبية يجري «تأصيل» اختلافها «العرقي» لشرعنة اضطهادها.
وكان عالم الاجتماع الفرنسي ماتيو ريغوست، قد برهن في مساهماته على استمرار تحكّم المنظور الأيديولوجي الاستعماري بالسياسات القمعية المعتمدة من الأجهزة الأمنية والبوليسية في فرنسا. يتعرّض أبناء المهاجرين لعمليات تدقيق بالهوية متكرّرة بسبب سحنتهم، في ضواح حشروا فيها كنتيجة لعملية إقصاء جغرافية ورمزية للآخر «الخطير». أمّا العنف «العادي» الذي يرافق أي اعتقال، فهو يعكس ديمومة نمط السيطرة والتحكّم بالسكان في الحقبة الاستعمارية. غير أن ما يقوم به المثقف الإعلامي هو إنكار هذا «البعد الإثني» في العلاقات الاجتماعية السائدة، المستند إلى الموروث المذكور، بحجة أن الاستعمار والعبودية أضحيا من الماضي. هناك رفض قطعي للاعتراف بالتشابه بين الممارسات الاجتماعية ــــ الثقافية في ماضي فرنسا وفي حاضرها، وإصرار على نزع الشرعية عن مطالبة الحركة المناهضة للعنصرية بضرورة الإقرار بحقيقة ما مثّله الاستعمار والعبودية في تاريخ فرنسا.
السردية الوطنية الرائجة راهناً تهمّش أهمّية الظاهرة الاستعمارية والعبودية في تاريخ البلاد ولا تطرح أية تساؤلات بصددهما. في مواجهة واقع الإنكار، فإن أبناء المستعمرين والمستعبدين يعتبرون أن إعادة النظر بهذا التاريخ قضية نضالية مركزية بالنسبة إليهم أوّلاً، لأن العنف الذي يستهدفهم ليس جزءاً من الماضي، بل هو واقعهم اليومي. عبّر شعار «لنسقط السردية الرسمية» الذي كتب على تمثال غالييني في باريس، عن هذا الموقف وعن رفض بقاء هذه التماثيل التي تجسّد في المجال العام سيادة هذه السردية الإقصائية والعنصرية والممتنعة عن أي تطوّر. تدمير التماثيل هو أحد الأساليب النضالية المعتمدة من قبل تيار مناهضة العنصرية السياسي الذي يتبلور في فرنسا. وقد أقدم مناضلون من هذا التيار على خطوة عالية الرمزية عندما قاموا بتغيير اسم محطة مترو غالييني، ليصبح محطة موريس وجوزيت أودان، المناضلين من أجل استقلال الجزائر.