واشنطن هي المتضرّر الأكبر من «فسخ الشراكة» مع بكين نقطة ضعف الصين هيمنةُ الدولار على النظام العالمي

يكاد لا يمرّ يوم من دون أن تتخذ الولايات المتحدة إجراءً تصعيدياً ضد الصين. فقد صادق الرئيس الأميركي، الأربعاء الماضي، على مشروع قانون يدعو إلى فرض عقوبات على مسؤولين صينيين بحجة اعتماد بلادهم سياسات قمعية بحق أقلية الإيغور في إقليم سين كيانغ، بعدما صادق مجلس الشيوخ عليه في 15 أيار/ مايو ومجلس النواب في 27 منه. يترجم هذا الإجراء عملياً، مع ما سبقه من تصريحات رسمية واتهامات وقرارات سياسية وعسكرية واقتصادية وتجارية، استراتيجية يجمع حولها القطاع الأوسع من النخبة الأميركية، تصنّف الصين على أنها التهديد الأبرز للريادة الأميركية. من بين النتائج المهمّة لارتفاع حدّة المواجهة بين بكين وواشنطن، بداية فسخ للشراكة الاقتصادية التي أفضت إلى تبعية متبادلة بينهما في الماضي، تتفاوت تقديرات الخبراء حول مداه الفعلي حالياً ووتيرته. ليونيل فيرون، الدبلوماسي الفرنسي السابق وأحد أبرز الخبراء في الشؤون الصينية، قدّم إلى «الأخبار» تحليله لمسار فسخ الشراكة الصينية ــــ الأميركية وللعوامل والمستجدات التي قد تفضي إلى تجميده مؤقتاً أو إلى تعاظمه، مع الانعكاسات المتوقّعة في أي من الحالتين.

يعتقد ليونيل فيرون أن من الضروري اعتماد مجموعة من المعايير الموضوعية لفهم تطور العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة، وما يمكن أن تؤول إليه في المستقبل. «من الصعب على أي محلل أن يتنبّأ بالقرارات التي قد يتخذها ترامب حيال موضوع العلاقات الاقتصادية مع الصين في الأيام والأسابيع المقبلة. البعض يقوم بمحاولات لاستشراف ما ستكون عليه هذه العلاقات بعد سنة أو سنتين، ولكن لا أحد يعلم ما الذي قد يفعله ترامب في حال إعادة انتخابه. من المحتمل مثلاً، بما أنه يعطي الأولوية للاقتصاد، وأن قسماً من فريقه يعي أن للتوتر المتعاظم مع الصين تداعيات شديدة السلبية على هذا الأخير، أن يتراجع عن سياساته تجاهها ويخطب ودّها. المعيار الثاني يرتبط بالأضرار التي لحقت باقتصاد الصين نتيجة للحرب التجارية وجائحة كورونا، والتي تحملها على عدم الذهاب في الحرب التجارية مع الولايات المتحدة إلى الحد الأقصى. سيعقد اجتماع بين وزيرّي خارجية البلدين في هاواي، وأعتقد أنهما أصبحا يدركان المفاعيل الكارثية لمستوى المواجهة الحالي بينهما، بمعزل عن خطاب بومبيو الأيديولوجي المغالي. وعلى الرغم من أن الصين استطاعت أن تتعامل بشكل أفضل من الولايات المتحدة مع الجائحة وما نجم عنها، ربما بسبب طبيعة نظامها، فإن شركاتها لا تعمل بشكل طبيعي، وهناك تراجع كبير في مستوى النشاط الاقتصادي في البلاد. صحيح أن هناك غضباً كبيراً في بكين ناجماً عن سلسلة القرارات المعادية لها التي اتخذتها واشنطن، لكن الصينيين براغماتيون جداً، وللاقتصاد أهمّية مركزية بنظرهم. نظراً إلى هذه المعطيات، لا أظن أننا سنشهد فسخاً كاملاً للشراكة بين الاقتصادين في السنة القادمة مثلاً، لكن هذا الأمر وثيق الصلة بكيفية تعاطي ترامب في حال انتخابه مجدداً. بالنسبة إلى بايدن، الذي يتبنّى مقاربة أيديولوجية تجاه الصين قريبة من تلك التي تتبناها الإدارة الحالية، فهو من جهة أخرى أكثر واقعية من ترامب وأقل تقلباً في مواقفه، ما يسهل التعامل معه».
الولايات المتحدة لم تعد مركز العالم، وهناك استدارة صينيّة على مستوى الاستثمارات نحو أوروبا


العديد من الدراسات والتقارير، الأميركية والغربية أساساً، أشارت في الأشهر الأخيرة إلى تسارع مسار «فسخ الشراكة»، الذي بات أيضاً مفهوماً متداولاً في وسائل الإعلام. يرى فيرون أنه «ينبغي الحذر من التحليلات التي كثيراً ما تكون جزءاً من الحملات الدعائية. الأرقام تظهر أن هناك انخفاضاً في التبادل التجاري والاستثمارات بين البلدين، لكنني مقتنع بأن تلك الصينية في الولايات المتحدة هي المرشحة للتراجع أكثر من تلك الأميركية في الصين في المدى المنظور، والخاسر الأكبر هو الولايات المتحدة. للشركات الصينية اليوم فرص هائلة للاستثمار، وخاصة في دول الاتحاد الأوروبي، كفرنسا وألمانيا وبريطانيا بعد البريكسيت، ولم تعد الولايات المتحدة الوجهة الأكثر جاذبية للاستثمار. ولا شك أن العقوبات على عدد من الشركات الصينية وقرار منع الطلبة الصينيين من التخصص في بعض مجالات العلوم والتكنولوجيا في الجامعات الأميركية قد أدّت دوراً في تراجع الاستثمارات. الولايات المتحدة لم تعد مركز العالم، وهناك استدارة صينية على مستوى الاستثمارات نحو أوروبا. غير أن هناك قدراً من المبالغة في وتيرة عملية فسخ الشراكة ومداها. هي ستتعاظم بالضرورة إذا عمد الأميركيون، كما اقترح بعض المسؤولين في اجتماع عقد في البيت الأبيض، إلى فرض عقوبات تهدف إلى منع الصين من استخدام الشبكات المالية المدولرة. سيكون مثل هذا القرار بمثابة استخدام لسلاح دمار شامل، وسترد عليه الصين بوقف شراء سندات الخزينة الأميركية، ولست متأكداً، نظراً إلى صدقية ترامب الضعيفة على النطاق الدولي، من أن أميركا ستجد بديلاً من الصين في هذا المضمار. وعندما يحاول بومبيو الإيحاء بأن الإدارة تدرس فرضية عدم تسديد دينها للصين كتعويض عن الأضرار التي تسببت بها جائحة كورونا، فإن اتخاذ هكذا قرار سيؤدي إلى قتل ثقة جميع المستثمرين الحاليين، والمحتملين، في سندات الخزينة الأميركية، بالدولة الأميركية، ما سيدخلها في أزمة وجودية. إذا رأينا تطورات من هذا القبيل، سنكون أمام فسخ شراكة تام».
كيف سينعكس «التنافس الاستراتيجي» بين الدولتين على الشرق الأوسط؟ لقد رشحت معلومات كثيرة عن اهتمام صيني بسوريا وبميناءي اللاذقية وطرطوس في إطار مشروع «عقد اللؤلؤ» الصيني، وفي مقابل الضغوط الأميركية على إسرائيل لإلغاء اتفاقها مع الصين على إدارة إحدى شركاتها لميناء حيفا. «الشرق الأوسط ليس أولوية رئيسية في سياق المواجهة الاستراتيجية الصينية ــــ الأميركية. على المستوى الاقتصادي، وحسب معلوماتي، لم تقرّر الحكومة الصينية حتى الآن تحدّي العقوبات الأميركية والأوروبية على سوريا. هناك اهتمام صيني بكل تأكيد بالميناءين في سوريا، وهو يندرج في سياق المشروع الذي ذكرتم، لكنْ هناك حساب ما زال جارياً للأرباح والخسائر. نقطة ضعف الصين المركزية هي العقوبات المالية في إطار نظام مالي عالمي ما زال خاضعاً لهيمنة الدولار. نرى ذلك في مجالَي النفط والغاز، حيث تتردد الشركات الصينية العاملة في هذا الحقل من التعامل مع بلدان خاضعة للعقوبات الأميركية، أو تتعامل معها بحذر كبير. إذا لم تنجح الصين في بناء شبكات مالية موازية ومستقلة عن تلك المدولرة، فهي لن تقدر على المضيّ بسياسات حازمة في مقابل الولايات المتحدة. أمّا في جوارها، كبحر الصين وتايوان واليابان، فهي تتبع مثل هذه السياسات بوضوح دفاعاً عن أمنها القومي. تسعى الولايات المتحدة إلى الحدّ من نموّ نفوذ بكين الاقتصادي والسياسي في الشرق الأوسط وأوروبا وإفريقيا وآسيا، وتطالب جميع شركائها بالامتناع عن تطوير علاقاتهم معها، بالتهديد والوعيد أحياناً».
يعتبر الخبير الفرنسي أن الحملة الأميركية والغربية على الرئيس الصيني شي جين بينغ، واتهامه باتباع سياسة خارجية عدوانية والتخلي عن الثوابت التي كان قد حددها لها الرئيس الأسبق دينغ سياو بينغ، يتغاضى عن أن وصوله إلى السلطة عام 2012 تزامن مع تدشين أوباما لسياسة «الاستدارة نحو آسيا»: «تمثّل هذه السياسة في الواقع إعلان حرب أميركية على الصين. هي استراتيجية تطويق واحتواء شبيهة بالتي طبقت ضد الاتحاد السوفياتي. قال الأميركيون رسمياً إنهم بصدد تشكيل حلف معاد للصين، وزار وزير دفاعهم آنذاك غالبية الدول المجاورة لها لحضها على الانضمام إليه. سياسة شي جين بينغ جاءت كرد على هذه الاستراتيجية العدوانية الأميركية المستجدة حيال بلاده».
دعا السيد حسن نصر الله في عدة خطابات له، وفي مقابلته مع إذاعة «النور» إلى «التوجّه شرقاً»، سعياً للخروج من أسر الاستتباع الاقتصادي الأميركي له، وكشف في آخر هذه الخطابات عن استعداد صيني لبناء قطار سريع وشبكة سكك حديدية في لبنان والمساهمة في مشاريع أخرى لتطوير بناه التحتية. «الشركات الصينية التي تتولّى هذه المشاريع هي شركات عامّة وهي متعطشة اليوم، أي بعد الجائحة ومفاعيلها، أكثر من البارحة للمشاريع. هي بالإجمال راهناً شبه متوقفة عن العمل. الحكومة الصينية معنيّة بأن تساعد شركاتها على العمل مجدداً وبأن تؤمّن لها التمويل اللازم لمشاريع بنى تحتية كالسكك الحديد ومحطات الكهرباء وغيرها. يصح هذا الأمر على لبنان، كما على دول أخرى في مناطق مختلفة من العالم. والاعتبارات الاقتصادية في هذه الحالة بالنسبة إلى الدولة الصينية تسبق تلك الاستراتيجية»، يختم فيرون.

الدبلوماسي الفرنسي السابق والخبير في الشؤون الصينيّة