غالباً ما تصدر أصوات تستخدم اسم فنزويلا كتهويل لويلاتٍ قد تصيبنا أو بلاد أخرى إذا ما خرجنا عن خط طاعة «الشرعية الدولية» أو «الأسرة الدولية»، وهذه من المصطلحات الشائعة لتلطيف صورة الاستعمار. لكن من المهم أن ندرك أن معظم ما يُتداول عن فنزويلا وثورتها البوليفارية التي تدخل عقدها الثالث من العمر، صادر عن قنوات الدعاية الأميركية بشكل خاص، ومن خلفها توابعها الأوروبية. طبعاً، لبنان منتشرٌ في فنزويلا كما في كلّ أصقاع العالم (وأنا شخصياً من نتاج هذا الانتشار في جزيرة مارغريتا الكاريبية)، ويساهم نشر المنتشرين لغسيل الدولة الفنزويلية بالترويج لصورة مماثلة عن الدولة الاشتراكية لتلك التي تروج لها واشنطن، إذ قيّدت هذه الدولة حريّتهم في تهريب العملة الصعبة من البلاد بعدما كانوا قد اعتادوا شفطها بسهولة «أيام العزّ» حين كان الاستعمار شبه المباشر من قبل واشنطن والذي يحلمون بعودته اليوم. لا داعيَ لشرح عدم صلاحية أبواق واشنطن كمصدر أخبار عن فنزويلا، إذ لا تختلف دقتها عن دقة أخبار كوريا الجنوبية عن بيونغ يانغ. تروّج واشنطن وعالمها «الحرّ» مقتنعةً لتافهٍ فاشلٍ سخيفٍ رئيساً لجمهورية منذ سنة ونصف سنة وهو لا يملك نفوذاً على موظف واحد في الدولة الفنزويلية. أمّا خبريات أبناء الجالية اللبنانية فيجب التوقف عندها كونهم حاملي هوية هذا الوطن وقد يدلون بأصواتهم في انتخابات قادمة يوماً ما. تتصرّف جاليتنا في فنزويلا، وهنا لا أظلمها إذ عايشتها منذ طفولتي، كدكاكين استعمارية تقتات على فتات الواقع الاستعماري القائم، وينطبق ذلك على العديد من جالياتنا المنتشرة في دول الجنوب المنهوبة من الاستعمار المعولم. في الوقت الذي خرجت فيه عشرات المليارات من الدولارات من فنزويلا لبناء مدن مثل ميامي في ولاية فلوريدا والتي نتغزّل بها بأغانٍ وإرثٍ ثقافيٍّ مفروض علينا، خرجت بالمقابل عشرات الملايين من الدولارات لتشييد فيلات في قرى المغتربين هنا، والتي هي عبارة عن مجسّمات تعبيرية لإحدى نظريات الحسد الفرويدية.
لكن ليس هذا أشنع ما تفعله جالياتنا العزيزة، إذ يَروج بينها مصطلح «من شعبهم» العنصري للتعبير عن نظرتهم الفوقية نحو الشعوب المضيفة وهم لا يختلطون معهم أو يستثمرون في تطوير مجتمعاتهم المحلية، بل إن أنفقوا في تلك المجتمعات يبنون مسجداً للطائفة أو كنيسة باذخة تكرّم قديساً زاهداً. مع الوقت تفكّ الأجيال اللاحقة ارتباطها بوطن الأرز وقد يختفي هذا الإحساس بالتفوق أو قد يتطوّر لينتج مجموعة من أحقر سياسيي اليمين في جنوب القارة الأميركية أمثال جميل معوّض الذي ترأس الإكوادور ثمّ هرب منها إلى الولايات المتحدة والانقلابي ميشال تامر في البرازيل الذي مهّد الطريق لأسوأ ظاهرة أصابت القارة منذ أن حكمها هنري كسينجر وطغاته العسكر في السبعينيات من القرن الماضي.
تواجه الثورة البوليفارية في فنزويلا أكبر تحدٍّ حتى اليوم وتفعل ذلك بنجاح وبسالة وابتكار مبهر، وإن احتجنا إلى قدوةٍ في مواجهتنا القادمة فهي فنزويلا. هناك اليوم من لا يزال يبيعك نظرية أن الضعف والانبطاح سوف يجعلان من لبنان سنغافورة، كأنه لم يمرّ علينا رفيقٌ أو كميلٌ باعونا البضاعة التالفة ذاتها. الشعار التسويقي ذاته استخدمه البرزاني في محاولته تمرير مشروعه التقسيمي الفاشل في العراق وإن كان يعد الناس بحلم دبي بدل سنغافورة. على كلٍّ، حرب بحر الصين الجنوبي ليست ببعيدة وسوف نرى مدى صمود قصة النجاح تلك. لا يوجد خلاص جزئي وحرية مجزّأة ولا صمود على رجلٍ واحدة. التحرّر الثوري إما يكون كاملاً أو لا يكون. تذوّقنا طعم الانتصار الجزئي بتحرير الجنوب وردع جيش كان يقتلنا هوايةً. فتصوّروا ما يعيشه «شعبهم» الثائر منذ عشرين عاماً في مواجهة مباشرة مع رأس الإمبراطورية.
تلوح «ثورة جياع» في الأفق ستكون عنواناً لمحاولة جديدة للانقضاض على بلادنا، وهنا لن يكون للحدود والمعابر أيّ معنى


تُصوَّر فنزويلا العظمى على أنها دولة مفلسة رغم احتياط نفطها الهائل، لكن صمودها في وجه حصار خانق ومحاولة انقلاب تلو الأخرى أسطوري، وذلك دليل جبروت شعب يدرك جيّداً ما الذي يقاتل من أجله. هذا ليس صدفةً، فالشعب الفنزويلي أيضاً تذوّق طعم الحرّية والانتصار ولن يعود إلى الخضوع والخنوع. ما يغيب عن الدعاية الغربية عن فنزويلا هو أن هذا الشعب كان محكوماً بجزمة عسكرية واشنطنية البوصلة. كانت حكومات فنزويلا السابقة تقتل كل فقير يجرؤ على الاعتراض على حكم منظومة استعمار كانت سردية نخبتها تروّج لنظرية أن «شعبهم» لا يحب الرفاه ولا التعليم ولا الطبابة أصلاً. وهو يفضّل حياة الفقر البسيطة في الأدغال بينما تذهب ثروات بلادهم الهائلة لإثراء من يليق بهم الثراء أكثر، والذين يصادف أنهم سلّان (جمع سليل) الاستعمار الأوروبي.
في يوم واحد، 27 شباط 1989، قتل النظام الفنزويلي العميل لواشنطن في حينها الآلاف من المتظاهرين في العاصمة كراكاس، ولم تكتب عن ذلك اليوم المشؤوم أيّ من الصحافة الأميركية والأوروبية الغيورة اليوم على جوع الشعب الفنزويلي، لا بل سارعت حكومات الغرب إلى دعم وتعويم الحكومة القاتلة. حصل هذا الحدث المعروف بالـ«كراكاسو» منذ ثلاثة عقود فقط، أي أن هناك من عايش هذه التجربة وهؤلاء لن ينسوا ظلم حكم غلمان واشنطن حتى لو أرادوا. هذا الجيل هم من صنعوا الثورة البوليفارية وكسبوا حرية قرار غاب عنهم لأجيال، واكتسبوا حقوق التعليم والطبابة التي لم تكن متاحة لأمثالهم. هؤلاء اختبروا حرّيةً دفعوا دماً من أجلها ولن يرضوا إلا بالمزيد منها، مهما تطلب ذلك من تضحيات.
طبعاً واشنطن تريد تدفيعهم ثمن الوقوف في وجهها، وهي غالباً ما تلجأ إلى أساليب التركيع نفسها. الاستعمار يموّل حربه علينا من أموالنا، وهذا تماماً ما يحصل في فنزويلا. تخنق الولايات المتحدة فنزويلا بحصار ثم تحجز أموالها وتموّل بها محاولات الانقلاب على ثورتها. وعندما نقول إن نجاح فنزويلا أسطوري علينا أن ننظر إلى محيطها الذي شهد انقلابات ناجحة في البرازيل وبوليفيا والإكوادور وهندوراس. اختلف إخراج كل انقلاب عن الآخر؛ من مسرحية محاكم ساو باولو إلى خيانة لينين مورينو في الإكوادور إلى الانقلاب العسكري العلني على الرفيق إيفو موراليس في بوليفيا. كل هذه الأساليب وأكثر جُرّبت في فنزويلا وفشلت.
في كل محاولة انقلاب تعد واشنطن الفنزويليين بالازدهار إن انقلبوا إلى مقلبها، وتخرج صرخات تدّعي الجوع في نخبة كراكاس وأن «الكرامة والوطنية» لا تُشبِع. لكن في كل مرّة يتمسّك الجياع الفعليون بثورتهم أكثر ويقتصر صدى التحركات المطالبية بـ«الحرية» على من ينظر إلى «شعبهم» بازدراء. فعلينا أن نتوقع ازدياد ترداد جوقة الأذلاء بيننا، الذين لن يتلذذوا بطعم الكرامة يوماً، لهكذا شعارات في الأسابيع والشهور القادمة. في فصلٍ آخر من محاولات إسقاط حكومة كراكاس الاشتراكية - من خلال الانتخابات هذه المرة - راج تصوير الرئيس الفنزويلي على أنه «مجرّد سائق حافلة» بينما خادم واشنطن المختار خرّيج جامعة هارفارد. وهنا الردّ الأنسب على هذه العقلية هو أيّ كلام نابٍ زقاقيّ ينتهي بـ«أنتم وهارفارد تبعكم». المبهورون بهارفارد هم أوّل من يدّعي الجوع كما شاهدنا مع رئيس جامعة خاصة هنا وأصحاب مدارس خاصة هناك، فهؤلاء فجعانون فاحشون.
لعلّ أهم درس صمود فنزويلي هو أنّه رغم الحصار ومحاولات الانقلاب التي أدّت إلى انهيار اقتصادي وتضخّم ووضع صعب للغاية لم يجُع «الجياع». انتشرت منذ عام 2016 لجان محلية لإنتاج الغذاء وتوزيعه مدعومة من الدولة، تؤمن الغذاء الأساسي على مستوى الأحياء والمناطق كافة. أغاظت هذه اللجان المعروفة بـ«CLAP» إدارة ترامب إلى درجة أنها فرضت العام الماضي عقوبات على الأفراد والشركات الذين يتعاملون مع هذا البرنامج الغذائي. شبع شعب فنزويلا الثائر يرهب واشنطن.
تلوح «ثورة جياع» في الأفق ستكون عنواناً لمحاولة جديدة للانقضاض على بلادنا ، وهنا لن يكون للحدود والمعابر أي معنى. في هذه المواجهة ما يهمّ هو التمييز بين جوع الجياع وجوع الفواحش. إهمال الأوّل كارثيٌّ ويؤدّي إلى الهزيمة. أمّا الجوع الثاني فهو هدفٌ ثوري. صراخ وتهويل الفواحش دائماً أعلى ويملأ الفضاء وإن كانوا قلّة على الأرض. لكن من رضي بدونالد ترامب إمبراطوراً عليه، في النهاية سيرضى بحكم سائقي حافلات الأحرار «متل الشاطر».