وعد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بإعادة فرض الأمن في بلاده التي تشهد موجة غضب تاريخية أثارتها وفاة جورج فلويد أثناء قيام الشرطة بتوقيفه، مُهدّداً بنشر الجيش لوقف أعمال العنف. ترامب، رأى أن الاضطرابات التي وقعت الأحد الماضي في واشنطن «وصمة عار»، داعياً حكّام الولايات إلى التحرّك بسرعة وبحزم «لضبط الشارع» ووقف دوامة العنف. وبلهجة تحذير، قال في حديث أمس: «إذا رفضت مدينة أو ولاية ما اتخاذ القرارات اللازمة للدفاع عن أرواح وممتلكات سكانها، فسأنشر الجيش الأميركي لحلّ المشكلة سريعاً بدلاً منها». تصريح لاقى الكثير من الانتقادات، فبرغم أنّها ليست المرة الأولى التي يهدّد فيها بذلك، لكنّ هذا الموقف يطرح تساؤلات حول مدى قدرته على إصدار تعليمات للجيش للنزول وفضّ اضطربات، والصلاحيات التي تتمتّع بها القوات المسلّحة في هذا الشأن. فعلى عكس قوات «الحرس الوطني» التي نشرت أخيراً في مينيسوتا، وتأخذ تعليماتها مباشرة من حاكم الولاية وتقوم بأدوار قوات الشرطة، ليس مصرّحاً لرئيس الولايات المتحدة استخدام الجيش داخل البلاد إلا وفق شروط معيّنة.كما أفادت وسائل إعلام أميركية عدّة، طلبت وزارة الدفاع، في وقت سابق من الجيش، وضع عدد من وحدات الشرطة العسكرية العاملة في حالة تأهب للذهاب إلى مينيابوليس التي تمزّقها الاحتجاجات. لكن وفق القانون، يُمنع الجيش عموماً من الانتشار داخل الولايات، أو أداء وظائف إنفاذ القانون المحلية سوى بشروط صارمة للغاية، اعتباراً بـ«قانون بوسيت كوميتاتوس» الصادر عن الكونغرس عام 1878. في الوقت نفسه، يمنح «قانون التمرّد» لعام 1807 ـــ تم تعديله مرّات عدّة ـــ استثناءات واسعة تسمح للرئيس بإرسال قوات بغية الرد على «أي تمرّد أو عنف أو تصرّفات غير قانونية أو مؤامرة تعارض أو تعرقل تنفيذ قوانين الولايات المتحدة أو تعرقل سير العدالة».

«قانون التمرّد»
من هذا المنطلق، وبناءً على تصريح ترامب، قد تُنشر الوحدات العسكرية بموجب «قانون التمرّد» الذي استخدم آخر مرّة لقمع أعمال الشغب في لوس أنجلوس عام 1992، عندما لجأ حاكم كاليفورنيا إليه بعد تبرئة شرطيين كانا ضالعين في قتل رودني كينغ، الذي قضى بسبب الضرب الوحشي. حينذاك، طلب من الرئيس الراحل جورج بوش الأب التدخّل لأنّ قوات «الحرس الوطني» في كاليفورنيا لم تكن قادرة على قمع الاضطراب الداخلي. وردّ بوش بإصدار أمر تنفيذي أذِن لوزير الدفاع بتحويل الحرس في كاليفورنيا إلى قوات فدرالية، وتمّ نقل جنود في الخدمة من قواعد في كاليفورنيا إلى هناك للتعامل مع الأحداث.
كذلك، جرت الاستعانة بهذا القانون في خمسينيات وستينيات القرن الماضي لفرض قوانين الحقوق المدنية وإنهاء التفرقة العنصرية في الجنوب، على يد الرئيسين دوايت أيزنهاور وجون كينيدي، في أركنساس وألاباما وميسيسيبي. وقد استند كينيدي إلى حدوث «إعاقة» للقانون الفيدرالي كي يرسل قوات عسكرية فيدرالية إلى مدينة برمنغهام في ألاباما، خلال احتجاجات الحقوق المدنية. ويشير «التمرّد» إلى إمكانية أن يقوم الرئيس، بناءً على طلب من الجهاز التشريعي لولاية أو حاكمها، باستخدام الجيش الفيدرالي لقمع تمرّد. فقانون «بوسيت كوميتاتوس» يقيّد قدرة الرئيس على استخدام الجيش الفيدرالي في عمليات إنفاذ القانون المحلية، مثل عمليات التفتيش والحجز والاعتقالات، ويجرّم قيام الجيش بتنفيذ القوانين «إلا في الحالات والظروف التي يجيزها الدستور أو الكونغرس صراحة».
تأتي مسيرة ترامب المتلفزة بعد انتقاده بسبب هرعه إلى مخبأ تحت الأرض


بناءً عليه، يمكن أن يتحرّك ترامب استناداً إلى القواعد التي تجيز له التدخّل، والواردة في القانونين. وإذا لم يكن هناك طلب من حاكم ولاية ما، أو قرار تشريعي بذلك، يجوز للرئيس أن يتذّرع بـ«قانون التمرّد» دون استشارة الكونغرس، ولكن يجب أن يفعل ذلك بإعلان رسمي يمنح الأفراد في المنطقة أو المناطق المتضرّرة الوقت للعودة إلى منازلهم. وكان الكونغرس قد وسّع، بشكل ملحوظ، نطاق الظروف التي يمكن بموجبها العودة إلى القانون، في أعقاب إعصار كاترينا عام 2005. وقد تمّ ذلك على رغم اعتراضات كل حاكم في البلاد في ذلك الوقت، إذ رأوا التعديلات على القانون تجاوزاً من الحكومة الفيدرالية.
تبقى شروط إنفاذ القانون محدّدة بطرق مشروطة جداً، منها اللجوء إلى استخدام القوة كملاذ أخير، وعدم استخدام القوة المفرطة إلّا عند تعذّر اللجوء إلى وسائل أقل قسوة. كذلك، تجيز هذه القواعد استخدام القوة لحماية المرافق النووية والمرافق العامة المهمة. ومن هذا المنطلق، يمكن لترامب نشر القوات العسكرية الأميركية للقيام بمهام غير متعلقة بإنفاذ القانون، مثل حراسة البنية التحتية الحيوية أو تقديم الدعم الطبي أو اللوجستي. مع ذلك، تنصّ فقرات القانون على أن الرئيس يستخدم هذه السلطة إذا كان العنف «يعيق تنفيذ قوانين الولايات».
«لم نصل إلى مستوى التمرّد!»
برغم كلّ ذلك، من المستبعد أن يلجأ حاكم ولاية مينيسوتا، أو أي حاكم آخر، إلى هذا الأمر بالنظر إلى المواقف السياسية التي تتعارض مع ترامب، وخصوصاً أنّ غالبية الولايات التي تشهد عنفاً يحكمها ديموقراطيون. فضلاً عن ذلك، تشير الوقائع إلى أن الولايات الأميركية تاريخياً كانت متردّدة في طلب الاستعانة بالجيش الفيدرالي. على سبيل المثال، طلب حاكم لويزيانا كاثلين بلانكو، إبان إعصار كاترينا، أن يبقى «الحرس الوطني» تحت سيطرة الولاية، ورفض اللجوء إلى الحكومة الفيدرالية. ويرى العديد من الخبراء أنّ التظاهرات والسرقات التي اندلعت بعد مقتل فلويد لم تصل إلى مستوى التمرّد.
في هذا السياق، تنقل وكالة «بلومبرغ»، عن دوايت ستيرلينغ، وهو الرئيس التنفيذي لـ«مركز القانون والسياسة العسكرية»، أنّ «تعريف التمرّد» هو عندما يحاول الناس إسقاط حكومتهم. وهذا الأمر يتمثّل في «حشود من الناس يحملون الأسلحة النارية، ويسيرون في عاصمة الولاية»، معتبراً أنّ «ما يحدث الآن اضطرابات مدنية واحتجاجات». كذلك، نقلت شبكة «سي أن أن» عن مصادر في وزارة الدفاع أنّ هناك شعوراً بغياب الارتياح، عميقاً ومتعاظماً بين المسؤولين في البنتاغون، بشأن تصريح ترامب. وفق الشبكة، حاول هؤلاء التخفيف ممّا يجري في الشارع، عبر تأكيد أنّ الوضع لا يستدعي بعد الدعوة إلى نشر قوات عاملة، إلّا إذا قدّم حكّام الولايات حجّة واضحة تفيد بأنّ مثل هذه القوات باتت مطلوبة.