توقّع مسؤولون سياسيّون وخبراء أن تفضي جائحة كورونا إلى تبريد حدّة الصراعات الدائرة في العالم بين القوى الدوليّة المتنافسة، وإلى قدر معين من التعاون بينها لمواجهتها. ما زال بعضهم، وبالأخص وثيقو الصلة بأوساط الأعمال، كجدعون راشمان في «فايننشال تايمز»، يعبّرون عن مثل هذا التفكير الرغبوي الذي يفترض أننا سنشهد ما يسمّيه «وقف إطلاق نار عالمياً» تحت وطأة الجائحة، وإحياء لدور المؤسسات الدولية المتعددة، وفي مقدمتها الأمم المتحدة ومجلس أمنها، للتصدي لها ولتداعياتها. غير أن جميع المؤشرات تظهر أن الوضع الدولي، وخاصة على مستوى العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، يتطور في الاتجاه المعاكس لجميع هذه التوقعات والتمنيات حتى الآن. ما يحدث بالفعل هو احتدام للصراع والتناقضات بين القوتين الدوليتين الأبرز، ومحاولات لتوظيف الجائحة في إطار هذا الصراع. قد يكون هذا الاحتدام، وما سبقه من فسخ شراكة متعاظم بينهما على المستوى الاقتصادي نتيجة لارتفاع حدّة التناقض الاستراتيجي، هو أحد العوامل الحاسمة في تحديد معالم زمن «ما بعد كورونا» الذي أسال حبراً كثيراً في الأوان الأخير. سيكون لتسريع فسخ الشراكة بين الصين والولايات المتحدة، أي لتفكيك شبكة المصالح الضخمة المشتركة بينهما، التي نشأت وتطورت منذ ما يقارب نصف قرن، أثر هائل في البلدين والمسرح الدولي عامة.قد يكون مفهوم «التبعية المتبادلة» أدق توصيف لما آلت إليه العلاقات الاقتصادية الصينية ــــ الأميركية في العقود الثلاثة الماضية. ومن اللافت أن بدايات التوتر الاستراتيجي بين البلدين في أواخر تسعينيات القرن الماضي وتبلور خطاب عن «التهديد الصيني» في الولايات المتحدة لم يحولا دون نموّها المستمر. لقد كان لهذه العلاقات دور مهم في «الصعود السلمي» للصين التي حرصت عليها وسعت إلى تطويرها بمعزل عن الخلافات السياسية و/أو التجارية، على عكس الولايات المتحدة التي أضحت ترى في مثل هذا الصعود تهديداً استراتيجياً لزعامتها وينبغي وقفه قبل فوات الأوان. في المرحلة التي سبقت بداية الحرب التجارية التي شنتها إدارة دونالد ترامب على الصين، كانت العلاقات الاقتصادية والتجارية مزدهرة في مجالات مختلفة. فعلى مستوى الاستثمارات المتبادلة، قدرت الاستثمارات الصينية غير المالية (أي دون حساب تلك الخاصة بسندات الخزينة الأميركية مثلاً) في الولايات المتحدة بنحو 50 مليار دولار أواخر 2016، والأميركية في الصين بنحو 80 ملياراً في 67000 مشروع في المدة نفسها. ووصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 636 مليار دولار سنة 2017، مع صادرات صينية نحو الولايات المتحدة بـ 505,6 مليارات، وأميركية نحو الصين بـ 130,3 ملياراً. القراءة الأولية لهذه الأرقام تظهر أن الصين تحقق فائضاً تجارياً صافياً عبر هذه المبادلات، وهي التهمة الأبرز الموجّهة إليها في الولايات المتحدة، إذ تصل قيمته إلى 375,2 مليار دولار، لكن المتهمين يتجاهلون أن حصة الشركات الأميركية في الصين هي نحو 40% من هذا الفائض. يتعامى هؤلاء أيضاً عن حقيقة أن الولايات المتحدة حققت فائضاً بقيمة 52,3 ملياراً في تجارة الخدمات مع الصين سنة 2016، وهو فائض تضاعف 30 مرة بين 2006 و2016.
قد يكون «التبعية المتبادلة» أدق توصيف للعلاقات الاقتصادية الصينية ــــ الأميركية في العقود الثلاثة الماضية


ستيفن روش، المدير السابق لبنك «مورغان ستانلي» الاستثماري الأميركي في آسيا، دعا في مقالة على موقع «بروجيكت سينديكيت» بعنوان «نهاية العلاقة الصينية ــــ الأميركية»، الطرفين إلى «إدراك النتائج الاقتصادية والجيوسياسية للقطيعة الكاملة بينهما». ولروش كتاب مهم عن العلاقات الاقتصادية بين الدولتين عنوانه «علاقات غير متوازنة. التبعية المتبادلة بين أميركا والصين»، صدر سنة 2014، توقّع فيه تأزمها، وسنتطرق إليه تالياً. هو يشير بداية في مقالته إلى أن البلدين، بحكم التبعية المتبادلة بين اقتصاديهما، سيتضرران كثيراً من القطيعة. «ستفقد الصين المصدر الخارجي الأكبر للطلب على صادراتها، التي ما زالت تشكل 20% من ناتجها المحلي الإجمالي. وستفقد القدرة على الحصول على المكونات التكنولوجية الأميركية الضرورية لعمليات التجديد التكنولوجي عندها... لكن النتائج ستكون إشكالية للولايات المتحدة أيضاً التي ستخسر مصدراً رئيسياً من مصادر السلع القليلة الكلفة التي يحتاج إليها المستهلك الأميركي المتراجع الدخل. سيفقد كذلك الاقتصاد الأميركي المتعطش للنمو مصدراً أساسياً من مصادر الطلب الخارجي على صادراته لأن الصين صارت السوق الثالث كبراً لها وأسرعها نمواً. ستخسر أميركا أيضاً أهم مصدر للطلب على سندات خزينتها، في ظل متطلبات التمويل التي تلوح في الأفق لأكبر عجز حكومي في التاريخ».
يذكّر روش في المقالة بأحد الاستنتاجات المبكرة التي كان قد توصل إليها في كتابه المشار إليه، وهو أن أصل التوتر بين الطرفين يعود إلى قرار الصين بعد أزمة 2008 ــ 2009 تغيير نموذجها الاقتصادي المعتمد أولاً على الصادرات والاتجاه نحو الارتكاز أساساً على الاستهلاك الداخلي وصناعة الخدمات. وهو كان قد أكد في هذا الكتاب أن «هذا التغيير سيسمح للصين بعدم الاستناد الحصري إلى السرعة القصوى للنمو ومنح أهمية أكبر للأبعاد النوعية في عملية النمو التي كانت قد أهملتها. هذا التغيير يوفر للصين فرصة التحول نحو اقتصاد مستدام أكثر رشاقة وأقل تلوثاً». لكن النقطة الشديدة الأهمية التي ركّز عليها روش منذ 2014 هي تلك المتعلقة بمفاعيل هذا التحول الاقتصادي في الصين، وما يستتبعه من نمو هائل في معدلات الاستهلاك وتراجع في الادخار، على انخفاض طلبها على سندات الخزينة الأميركية. ويجزم أن «الولايات المتحدة، بوصفها أكثر البلدان اقتراضاً وتعاني من ضعف الادخار، ستواجه مصاعب شديدة لاستبدال أهم المقرضين الخارجيين».
بكلام آخر: إن اتجاه الصين إلى التطوير النوعي لاقتصادها وإعطاء الأولوية لسوقها الداخلي هو أحد أسباب توتر علاقاتها مع الولايات المتحدة، إضافة طبعاً إلى الأسباب الأخرى المعروفة والمرتبطة بالتنافس التجاري والاقتصادي، ومن ثم الاستراتيجي، وبقرار من الثانية، على صعيد عالمي. لا شك أن تسارع فسخ الشراكة وما يعنيه من تفكيك للمصالح المشتركة سيزيد احتدام المواجهة الاستراتيجية واتساع نطاقها نحو بقاع مختلفة من العالم، وسيساهم بلا ريب في عملية إعادة صياغته.