نشرت شركة «غوغل» أمس، بيانات عن مواقع مستخدميها حول العالم للسماح للحكومات بقياس مدى فعّالية إجراءات التباعد الاجتماعي المفروضة لمكافحة فيروس كورونا. وينشر التقرير تحركات المستخدمين في 131 دولة، والنسبة المئوية لزيارات مواقع مثل الحدائق العامة والمتاجر والمنازل وأماكن العمل. تسمح تلك البيانات والتي جمعت إلى الـ 29 من الشهر الماضي، الدول بمراقبة مدى تطبيق سكانها لإجراءات الحجر المنزلي والتباعد الاجتماعي، ما يسمح لها بتشديد الإجراءات إذا ما تبين عبر البيانات أن الالتزام لم يكن كما يجب. لكن وعلى الرغم من أهمية ما سبق، إلا أنه عملياً، خرق بالغ الخطورة لحقوق مستخدمي الانترنت حول الكوكب. فيما الخوف الأكبر أنه وبسبب الوباء العالمي، ستحاجج هذه الشركات الكبرى والتي أصبحت حارسة بوابة الإنترنت، أنّ فائدة نشر مثل تلك البيانات أهم من حقوق المستخدمين بسبب «الأوضاع الراهنة» قبل أشهر، وضع فنان ألماني 99 هاتفاً «ذكياً» داخل عربة صغيرة، ثم جرّها في شارع لا يشهد حركة مرور للسيارات، لكن خرائط غوغل أظهرت حركة مرور كثيفة في ذلك الشارع، إذ تعتمد تلك الخرائط على بيانات الهواتف الذكية للمستخدمين، والموجودين في سياراتهم على الطرقات. إذا كانت حركة تلك المستخدمين سريعة، فهذا يعني أن الطريق مفتوح ولا توجد زحمة، والعكس صحيح. لا تبرز خرائط غوغل من هم المستخدمون، بل مجرد ألوان تتبدل بتغيّر حال الطريق.
ما قامت به «غوغل» أمس مشابه لما سبق، لم تنشر عدد الأشخاص ولا هوياتهم، بل النسبة المؤية لمن هم في المنزل، ونسب الذهاب إلى المتاجر أو أماكن العمل. كما لم تحدد الشركة أماكن العمل وأين تقع، بل كانت البيانات عن الدولة ككل. قد يبدو الأمر جيداً للوهلة الأولى، ولكن عند البحث عن بيانات الولايات المتحدة الأميركية، يتبين أن الشركة نشرت بيانات كل ولاية على حدة، ومن ثم بيانات كل مقاطعة في كل ولاية. ما يعني أن هذا النظام، يملك بالفعل بيانات حركة المستخدمين الخاصة بالمدن الصغيرة بل وحتى الأحياء السكنية حول الكوكب، لكن الشركة لم تنشرها. وأعلنت «غوغل» أنها ستقوم بتعزيز هذه البيانات في الأيام القادمة.
هذا النظام بدأ العمل عليه بناءً على طلب من البيت الأبيض، حيث أمر الأخير منذ أسابيع قليلة عمالقة شركات الانترنت والتكنولوجيا في الولايات المتحدة، مثل غوغل وفيسبوك وآبل وأي بي أم... المساعدة على بناء نظام يتيح للحكومة الأميركية، مراقبة إجراءات الحجر المنزلي، وذلك للمساعدة على أمرين: تحديد الأماكن التي لا يلتزم السكان هناك بالإجراءات، وثانياً والأهم، التنبؤ بأماكن التفشي الجديدة المحتملة لـ«كورونا»، اعتماداً على حركة السكان.
من سخرية القدر أن الغرب اتهم الصين بتعزيز دور الدولة الرقمية البوليسية تحت غطاء إنساني


تردّد غوغل أن هذه البيانات لا تنتهك حقوق المستخدمين، وهي ببساطة بيانات شاملة ولكن «مبهمة». المشكلة هنا، أن الأرقام لا تكشف عن التحول الكبير في حركة الناس وعمليات الإغلاق التام في البلدان والمناطق في جميع أنحاء العالم فحسب، بل تكشف أيضاً عن قوة التتبع الهائلة التي تمتلكها «غوغل» تحت تصرفها، باستخدام سجل المواقع على الهواتف المحمولة للأشخاص. وصحيح أن البيانات قد تكون مفيدة لتتبع تفشي الفيروس، الا أن الخبراء في مجال أمن المعلومات والخصوصية باتوا يتخوفون من هذا النظام، وخصوصاً أنّ هذه الأوضاع تشبه إلى حدٍ كبير ما كشفه ادوارد سنودن، عن سوء استخدام أجهزة المحابرات الأميركية لبيانات مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن وجدت طرقاً للاستفادة والالتفاف على قوانين الدولة الأميركية التي وُضعت على ضوء هجمات الحادي عشر من أيلول. من جانبها، أفادت «غوغل» لصحيفة «واشنطن بوست» الشهر الماضي، بأن «معلومات الموقع المجمّعة مجهولة الهوية ويمكن أن تساعد في القتال ضد كوفيد-19». لكن في غضون ذلك، طلب اتحاد يضم 33 رابطة صناعية وشركات ومنظمات أخرى من المدعي العام في ولاية كاليفورنيا زافييه بيسيرا تأجيل تطبيق قانون خصوصية المستهلك في الولاية، والذي كان من المقرر أن يبدأ في الصيف الحالي. هذا ما يحصل الآن حول العالم، وقد تم بالفعل بذل جهود مماثلة في أجزاء أخرى من العالم، بما في ذلك في فلسطين المحتلة وبريطانيا، حيث وافق المسؤولون الحكوميون على خطة لاستخدام بيانات الهاتف الخلوي لتتبع مواقع الأشخاص المصابين بالفيروس وأولئك الذين ربما كانوا قد اتصلوا بهم. أي أن الدول تتجه لتغييب القوانين التي تضمن خصوصية المستخدمين، بحجة حمايتهم من الفيروس!
تقول «غوغل» لـ«واشنطن بوست» أيضاً: «أي شراكة مع «طرف ثالث» لن تتضمن مشاركة حركة الشخص أو موقعه الفردي». هذا الكلام «المنمّق»، يعني أن غوغل ستبيع تلك البيانات لأطراف أخرى، وبمراجعة بسيطة لتاريخ غوغل وفيسبوك يمكن القول بأن تلك البيانات ستُستخدم بشكل أساسي للإعلانات الموجهة. تُعد تلك البيانات ضمن «البيانات الكبرى» (Big Data)، وفي عصر الديجيتال هي آبار نفط لا تنضب. فهي تتيح لـ«طرف ثالث» درسها لفهم حركة المتسوّقين ككل وليس بشكل فردي. مثلاً: ما هي أكثر الأماكن التي يبتاع منها المستخدمون حاجاتهم... وهكذا بالنسبة إلى المطاعم وأماكن التجمع. ويمكن بعدها أن يقوم هاتف المستخدم بعرض إعلانات مدفوعة خلال وجود الفرد في منطقة ما لتوجيهه إلى متجر جديد. كما يمكن تحليل نمط حياة السكان في دولة ما، مثلاً أين يتجهون بعد العمل، أين يقضون عطلة نهاية الأسبوع، ما يتيح للشركات التي تحاول الدخول إلى أسواق جديدة فهم سلوك السكان هناك بشكل أكبر وفرض واقع استهلاكي مختلف عمّا سبق. وفي مثلٍ بسيط عن البيانات والإعلان الموجه، بعد قيام المستخدم لعملية بحث على موقع «غوغل» عن أحد المنتجات التي يريد شراءها، ولأن مواقع تصفّح الانترنت تستعين بسجلات الـ«Cookies»، سيجد أن موقع «فيسبوك» قد أتى له بإعلان عن ذلك المنتج على الرغم أن البحث كان على موقع آخر.
بالمحصلة، بات مستخدم الانترنت اليوم، وخاصة عبر الهاتف الذكي، مكشوف الخصوصية للدولة خوفاً من الإصابة بالفيروس، ومن جهة أخرى تلتهم الشركات الكبرى بياناته الشخصية بغية جني أرباح طائلة من خلال بيعها في سوق الإعلانات.
ومن سخرية القدر أن الغرب وجّه أصابع الاتهام إلى الصين، بعد أن وضعت نظام المراقبة الاجتماعية كجزء من عملية كبح تفشي فيروس كورونا، قائلاً: إن الصين تريد تعزيز دور الدولة الرقمية البوليسية، تحت غطاء إنساني!